طالب عبد العزيز
يبرد ترابُ الطريق، بعد الظهيرة قليلاً، وتترفق الظلالُ بالعابرين، فيكون الحاج عبد الرزاق والحاج عثمان قادرَين على الوصول، الى حيث يكون أبي في كوخه(سوباطه) الذي على النهر. كان قد أحكم تشييد أخصاصه الثلاثة، فحصر السعف والجريد بأطرمن روط التوت والرمان،
وربطها بحبال، يختارها من خوص الفسائل القصير، يسمي واحدها (بَنِدْ)، ويجمعها بْنُودْ، وحين فرغ منه، جعل مدخله من جهة النهر، ليسهل عليه هبوط ميضأته واسباغ وضوئه، وملء جرار الماء قبيل غروب كل شمس، كانت تشرق عليه، وهذا أنا، اصغر أبنائه مامورٌ بجلب إبريق الشاي، وملحقاته مع كيس الكعك على دراجتي الفليبس الحمراء باسرع ما يمكن.
يحدثُ هذا في كلِّ موسم لجنيّ العنب، وبأوانِ نُضج الرُّطب، وبعض أويقات الشتاء أيضاً، حيث يجمع موقدُ الجذوع والاشجار اليابسة الرجالَ الثلاثة، ومن انضمَّ الى مجلسهم. لا اتذكر احاديثهم، لكنني حين كبرتُ وماتوا صرتُ اتذكر بعض ما كانوا يتداولونه، ولم يكن الدين حديثاً عندهم، لكنَّ إقتران الماء الاول بالماء الاخير، ودنو النخل من الترع، أو بعدها عن مماشي الآس، وحراثة الارض في تموز، وكري الانهار في كانون الاول، وغرس القثاء في منتصف آب، وإئبار البرحي (تلقيحه)من الفحول الغناميّة، وغرس الرازقي في الرطب من الارض وتحت الظلال، وجني اللوبياء عند مغيرب كلِّ يوم، ودخول وخروج المدِّ والجزر بحسب دورة الاقمار، وعبث الخنازير باشجار العنب، ومخاتلة الثعالب خلف أقنان الدجاج، واليقين القاطع بيد الرب كثيرة الهطلان والايمان بزرقة السماء في الغد، على تقلبها في الانفس والقلوب، ورائحة الارض مطعّمةً بماء الصبر والرضا كانت مادة حديثهم، وهي ما افتقده واستعيده اليوم.
الناس تستعجل جني التمر، فهو كالموز عند الافارقة، لا يحتمل التاخير، وشعارهم في الاودية تلك(مَنْ هرفَ غرفَ) وإذا امتدحوا واحداً بينهم قالوا:(مسحاته هلْ عرضها) كناية عن قوته وشطارته، وإذا وصموا واحداً بالكسل والبطء سموه(ذيخْ) المفردة التي قادتني الى البحث في اصلها فوجدتُ العربَ يطلقونها على من "يدَّعي منفرداً ما يعجز عنه إذا طولب به في الجمع" ومع أنها تعني ذكر الضباع كثير الشعر إلا أنني أجعلها في حيوان الفقمة صفة. هل أقول بأنهم حملوا اللغة الى بساتينهم، وأستودعوها انهارهم وسماواتهم حين صعدوا في الاعالي، هؤلاء الثلاثة، والثلاثين، والثلثمائة، وثلاثة الآلاف، وثلاثة الملايين، من لم يبق منهم، ومن ذهب في التراب، وصارت روحه في الطين والجذور أنطبقوا في المعاجم، كانوا قد حموا اللغة من الفقد والضياع؟
أفاخرُ أصدقائي قائلاً:" أنا متسول معانٍ، وحاصبُ شرور وظلام، وناقف ضوء، ومقتف ظلال، إذا سئلت عن شبر من التراب أجبتُ عن قفيز من الارض، وإذا أخذتني جادةٌ لا أجدني إلا في ذنائبها، وإذا حملني زورقٌ لا أسألُ عن وجهته، إذْ كل الأنهار في ابي الخصيب تأتي إلي، وتنتهي الى مُسناة أبي، ما انا بالغني فأدخل مصرفاً، ولا أنا بالفقير فأجيئ مسجداً، ولا أنا بالغاضب فأشهر سيفاً، لست بركانا فأثور، ولا عالماً فيتبعني المُضِلون..لكنْ، جُلَّ ما أريده وأطلبه أنْ أدخل معجماً فلا أراني خارجه، هذه الارض عجفاء بما يكفي لأختفاء كائن مثلي.