ستار كاووش
فتحتُ خريطة بلجيكا ووضعتها على الطاولة الصغيرة التي أمامي، فوجدتُ بأن مدينة بروخه تبعد عن بروكسل ساعة واحدة فقط بالقطار، ستون دقيقية إذن هي ما تبعدني الآن عن أهم متحف في البلاد! إنه متحف خرونِنغ أو (متحف بروخه) الذي يحتوي على عظمة الفن التشكيلي البلجيكي والأوروبي. لم أتردد لحظة واحدة في ترتيب الأمر،
حيث إنطلقت في صباح اليوم التالي مبكراً، نحو المحطة الرئيسية وحجزت بطاقة ذهاب وإياب من بروكسل الى بروخه. أخذتُ مكاني في القطار الذي إنطلق سريعاً وأنا أتابع الطبيعة المفتوحة من نافذة القطار المتجه لغرب بلجيكا، ولم أكد أتناول شطيرة جبن مع قدح من القهوة، حتى وصل القطار الى محطة بروخة، حيث يمكنني قضاء كل ما تبقى من اليوم في هذه المدينة التاريخية. كان عليَّ زيارة المتحف أولاً، ثم التمعن بجمال المدينة وبيوتها التي مازالت كما هي منذ ستة قرون. ها هو المتحف قد لاح لي من بعيد، منتصباً بمحاذاة أحد الأنهار الصغيرة، ببنايته القديمة التي تعود الى الفترة الذهبية للأراضي المنخفضة، وقد أخذ بورتريت (مارغريت فان آيك) مكانه على الواجهة، والذي أبدعه زوجها الفنان العظيم فان آيك سنة ١٤٣٩، وقد صارت هذه اللوحة بمثابة إعلان للمتحف. ما أن أمسكت تذكرة الدخول بيدي، حتى مضيتُ متماهياً مع لوحات هذا المتحف الذي يعتبر واحد من أهم متاحف العالم، بكنوزه الفنية وتاريخه العريق وما يحمله من ابداعات أعطت لهذا الأرض (كانت جزء من هولندا) قيمتها ومكانتها الفنية والتاريخية. كان عليَّ البدء بلوحات فان آيك الذي ساهم بنقل فن الرسم من اللوحات الايقونية الى الكلاسيكية، بعد أن كان أول من مارسَ الرسم بالألوان الزيتية، وساهم في نقل فن الرسم من فترة القرون الوسطى المتأخرة الى عصر النهضة، وفي هذا المتحف تعرض مجموعة من أعماله، من ضمنها لوحة السيدة العذراء، التي رسمها سنة ١٤٣٠ وتعتبر واحدة من أهم اللوحات في كل تاريخ الفن، وهي ثاني اكبر لوحة لفان آيك بعد لوحة (المذبح) الموجودة في مدينة خينت. تكوين هذه اللوحة مُبتَكَر -قياساً بتاريخ رسمها- من ناحية وضعية القديسين وعلاقتهم مع بعضهم أثناء المحادثة. واللوحة مليئة بالرموز التي تحتاج لوقت طويل للتمعن بها ومعرفة اسرارها، مثل الزهور التي بين يدي المسيح، والتي تعبر عن عذرية مريم، كذلك الببغاء الذي يكرر عليها كلمات مقدسة. وهناك الشموع الخمس المشتعلة التي يحملها القديس دوناتيوس، والتي تشير الى المعجزة التي حدثت له في طفولته، حيث تم إنقاذه من الغرق بعربة تحمل خمس شموع، ولا ننسى رداء مريم الأحمر الذي جعله فان آيك مشعاً وسط اللوحة، وهي إشارة رمزية منه للنص المقدس الذي يعتبر مريم مرآه الله الناصعة.
تنقلتُ بين الكثير من لوحات المتحف حتى وصلتُ الـى لوحة (حكم قمبيز) للرسام الهولندي خيرارد دافيد، وهما في الحقيقة لوحتان متلاصقتان تكملان بعضهما، وتمثلان مشهدين من الواقعة. وقد قام مجلس الشيوخ بمدينة بروخه بتكليف الفنان برسم هذه اللوحة سنة ١٤٩٨ لتوضع هناك كإشارة للعدالة والقضاء. تُمثل اللوحة الأولى، القرار الذي أصدره الملك قمبيز بالقبض على القاضي سيسامنيس الذي تلقى رشوة. وفي اللوحة الثانية نرى كيف حكم الملك بسلخ جلد القاضي وهو ما زال حياً، وجعل جلده غطاء لكرسي الحكم، ثم تعيين إبنه قاضياً، حيث جلسَ هذا القاضي الجديد على الكرسي المغطـي بجلد أبيه الذي لم يكن قاضياً نزيهاً، كي لا يحيد عن الحق ولا يتلاعب بمصائر الناس.
يضم المتحف في العموم ستمائة سنة من الرسم في الأراضي المنخفضة وأوروبا. أمضي بين اللوحات، فأقف أمام أعمال الفنان الهولندي يرون بوش وكائناته الغريبة ومناخاته المسحورة وحكاياته الغريبة وأشكاله المحرفة التي وصل تأثيرها الى السيرياليين، وقد إشتهر هذا الفنان بأعماله الثلاثية التي شكلت جانباً مهماً من المتحف. وهناك لوحات مواطنه الفنان بيتر برويغل وتقنيته العظيمة وهو يرسم الفلاحين في حفلاتهم ومناسباتهم ورقصاتهم وسط الحقول الفلامنكية. مدارس الرسم تتغير وتتعاقب بين جدران هذا المتحف، واللوحات تتكاثر وتنمو مثل العشب، بل مثل أشجاراً مثمرة، وأنا أمضي الساعات متجولاً بين كل هذا الجمال الذي لا يريد أن يتوقف. أتنقل من لون الى لون ومن اسلوب الى آخر، والمتحف يسير بي كإنه نهر متدفق بالفن والابداع والجمال. وحين وصلتُ الى النهاية، تساءلتُ مع نفسي: كيف سأترك هذا المتحف وأعود الى بروكسل؟ كيف سأغادر هذا المكان الذي تملأه الفتنة ويتراقص فيه الرسامون السحرة؟ لكن حتى بعد أن أخرج سأترك شيئاً من قلبي هنا بالتأكيد، سأخفي روحي بين ملامح الشخصيات وأمضي بالقطار عائداً الى بروكسل. سحبتُ خطواتي خارج المتحف وتساءلتُ من جديد: من الصعوبة أن تكفي خمس ساعات لرؤية لوحات رُسمت خلال ستة قرون. تركت المتحف ومضيتُ نحو مركز المدينة، بحثاً عن طعام وشراب أستجمع معهما شيئاً من طاقتي، شيئاً يعينني على إستعادة وإستذكار أعظم ما قدمته البشرية من ابداع بين جدران هذا المتحف.