من الثابت والشائع في آن واحد ان يقاس رقي وتحضر الشعوب عبر دراسة مظاهر حياتها المختلفة، ومنها نوعية ومستوى فنون الطهي لديها، ولعالم الاثار الفرنسي جان بوتيرو كتاب عنوانه (أقدم طهي في العالم) يستعرض فيه المعجزة الرافدينية المتمثلة بوجود اعرق وأغنى المطابخ في العالم.
ويذكر الكاتب العراقي المغترب محمد عارف ان للعراقيين في الطعام والأكل فنون عمرها من عمر الحضارة البشرية، ورمضان عندهم ليس فقط للصوم عن الطعام، بل لتناوله أيضاً والاحتفاء به.ويضيف: ان عدد وصفات الطبخ التي يتضمنها الكتاب نحو خمسين، وهي تشكل أول دليل للطبخ في التاريخ، ومعظمها وصفات طبخ المرق الذي يتفنن به العراقيون حتى اليوم. مرق لحم الغزال، ومرق لحم الجدي، ومرق لحم فخذ الضأن، ومرق طيور الحمام، والدرّاج.ووصفات الطبخ ليست كل الطعام. كما يعرض الكتاب، كما يذكر عارف لأدوات الطبخ، وتقاليد وطقوس عرض الأطعمة، ومشتريات القصر الملكي من الأغذية، ومراسلات تجار الطعام، وطلبيات طعام من سيدات عراقيات، وتعاليم دينية تحرم أو تحلّل أطعمة معينة، أو تحدد أوقات تناولها، كعدم جواز أكل السمك والكراث في شهر "نيسان" الذي كان يُعتبر أول شهور السنة، أو تفسير رؤية تناول أطعمة معينة في الأحلام، كأن يرى الحالم نفسه يأكل لحم الكلب المحرّم، وهذا ينذر بوقوع فتنة، أو عدم تحقيق الأمنيات!ويؤكد العالم الفرنسي ان"المطبخ المختبر الرئيس للأكل"، حسب عارف الذي يضيف: يخصص بوتيرو ثمانية فصول للتعريف بمطبخ قدماء العراقيين، وكما هي الحال الآن، كانت النار هي الطباخ الأكبر، والموقد ذراعها.و"التَّنْور" الذي يعرفه العراقيون باسمه وشكله الأسطواني منذ آلاف الأعوام، هو النموذج الأصلي للمواقد والأفران المستخدمة في كل مكان في العالم اليوم، والتنور، الذي يقول عنه المثل السومري الظريف: "أنت كالتنور العتيق لا يمكن تحريكك"، يُصنع من الطين النقي، ويبلغ ارتفاعه نحو متر، وقطره أقل من متر، وفي أسفله منفذ لإدخال الوقود أو خشب الحرق، ولمرور التيار الهوائي الذي يوزع الحرارة واللهيب على أرغفة الخبز الملصقة بالسطح الداخلي للتنور؟والنار الطباخ الأعظم، لكنها ليست كل وسائل الطبخ، فهناك التجفيف تحت الشمس الذي يستخدم لحفظ وطبخ الخضراوات والسمك واللحوم المقددّة، أو تعريض الأطعمة للدخان، أو غمرها بالزيوت التي تمنع منتجات الطعام من التحلل والفساد.هذه المعلومات المدونة قبل نحو 35 قرناً على ألواح طينية يسميها المؤلف "إنسكلوبيديا" العالم المادي. معظم مفردات الإنسكلوبيديا مدون باللغتين السومرية والأكدية، وتحتوي على مصنفات مختلف الأطعمة؛ كالخبز الذي يعرف قدماء العراقيين مائتي نوع منه، مصنفة حسب نوع الطحين، والعجين، والمضافات، والمطيبات، وحسب طرق الخبز وتقديمه، وتحتوي قائمة منتجات الألبان على نحو خمسين نوعاً من الأجبان، وثمانين صحناً من منتجات الألبان الأخرى. ولا تخلو أدبيات الطعام من وصفات فكاهية كان المهرجون يستخدمونها لإضحاك الجمهور، وبينها "الطبخة الجهنمية"، التي لا يُستحسن إيراد محتوياتها هنا!وتسحر العالم الفرنسي في أدبيات طعام قدماء العراقيين، والكلام لعارف، "المثابرة الفطرية الملازمة تماماً لعبقرية أولئك الناس، ورؤيتهم للأشياء، وفق منطقهم البعيد غالباً عن منطقنا، كما لو أن تداخل وترتيب مفرداتهم ساعداهم على الفهم بشكل أفضل وأشد صرامة للخبطة الكاملة في محتوى كونهم المادي".ويختتم المؤلف كتابه بالتعبير عن الحسرة لعدم معرفة مباهج مائدة طعام قدماء العراقيين، ويتساءل بشغف عما إذا كان من الممكن العثور عليها في المطابخ الحالية في منطقة الشرق الأوسط؟ويعلن الكاتب محمد عارف عن سروره بالقول: أجل، يمكن التعرف إلى مذاقها في "كتاب الطبخ العراقي"، الذي صدر بالإنكليزية The Iraqi Cook Book. يتضمن الكتاب، والذي ألفته الباحثة العراقية لميس إبراهيم، أكثر من مائتي وصفة طعام عراقية يستهلها 13 نوعاً من الشوربة، وأولها "شوربة العدس" التي لا تخلو منها مائدة إفطار، وأنواع عدة من شوربة الخضر والحبوب، وأشهرها شوربة "الهريسة"، ولا أحد غير العراقيين يطبخها، حسب الباحثة، وهي تصنع من الحنطة الجافة. وأكاد أشم نكهة "الدارسين" أو "القرفة" التي تنثر على "الهريسة" مع الزبدة الذائبة قبل تناولها. وتتفنن العراقيات في نثر "الدارسين"، بحيث تبدو وكأنها لوحة زيتية، و"العين تلتذ بالأكل قبل الفم".وهذا ما يفعله الكتاب المصور المكون من 300 صفحة، وعلى غلافه صورة "سمك المسقوف" الذي يشوى بالحطب في الهواء الطلق.وتروي المؤلفة في مقدمة الكتاب كيف بدأت علاقتها بالطبخ العراقي، وهي في عمر الثالثة عشرة، وذلك عندما مرضت أمها واقترح أبوها يوماً أن تقوم بالطبخ.وتذكر مقدار بهجتها عندما شرح لها أبوها في بضع كلمات كيف تطبخ الرز والمرق، وقدم لها النصيحة التي لن تنساها: "أيّ شيء يسرك طبخه سيسر أكله"، هذه الحميمية التي تستخدمها المؤلفة في وصف الطبخات، تضفي على الكتاب طاب
جان بوتيرو ولميس إبراهيم يكتبان عن المطبخ العراقي
نشر في: 18 أغسطس, 2010: 08:56 م