TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نقد العَقل الانحرافي ..قراءة نقديَّة لكتابِ وزارة التعليم العالي!

نقد العَقل الانحرافي ..قراءة نقديَّة لكتابِ وزارة التعليم العالي!

نشر في: 9 سبتمبر, 2023: 11:10 م

د.لؤي خزعل جبر

1-2

مُسلَّماتٌ مُهمَلَة

(1) وظيفَةُ الجامِعَة “إنتاجُ” المعرِفَة والتعليمُ “العالي”، وتقديمُ “الأنموذج النقدي الأخلاقي”، وتأسيس “المجال القانوني المؤسسي”، ومتى ما تخلَّت عن ذلك، وصارَت “مُستهلِكَةً” للمعرِفَة أو “مُنتِجَة للجهل”، وكرَّسَت التعليم “الداني”، وقدَّمَت “الأنموذج التسلطي الانتهازي”، وأسَّسَت “المجال المُزاجي الشعبوي”، مُسِخَت، وأصبَحَت أداةً تدميريَّة.

(2) التفكير والنقاش العلمي جوهَر الأكاديميَّة، فبخِلاف كل المؤسسات الأخرى، الجامِعة هي المعني الأصلي بتجسيد التفكير العلمي، إذ لا تعتمدُ فكرة أو ممارسة إلا بالاستنادِ إلى تفكير علمي عميقٍ، قائِمٍ على استيعاب التنظيرات والدراسات المُتخصصة، ونقاش نقدي مفتوح لكل جوانِب الفكرة أو الممارسة، ومتى ما تخلَّت عن ذلك، واعتمدت التفكير الشعبوي الارتجالي، وسياسة “نفذ ثم ناقش أو نفذ ولا تناقش”، فَقَدَت القيمَة.

(3) الأستاذ الجامعي باحِثٌ ومُعلم محترف رسالي، يحرِصُ على تطوير شخصيته وقدراته، ويُجسد العلميَّة والعدالويَّة، ويُدرك قيمته ويعتز بكرامته، ومتى ما تخلى عن ذلك، وأصبَح ضعيفاً ومزاجياً، ولم يُساهِم – بفاعليَّة – في إنتاجِ المعرفة والقيم، وتحوَّلَ إلى موظف اعتيادي، تقوده الأوامر كيفما كانت، دون أن يكون له موقِف للدفاع عن قيم الجامعة والمجتمع، وكرامته الشخصيَّة والمهنيَّة والفكريَّة، فقَدَ هويَّته، واستحقَّ كل إهانَةٍ توجَّه له.

......

خِطابٌ عِدائي

بدءً بعنوانِهِ «انخفاض نسبة النجاح والانحراف في التصحيح» حتى تفاصيلِهِ التي ستُفصَّل في النقاط اللاحقة، يُعبر كُتاب (قسم التقويم العلمي / جهاز الإشراف والتقويم العلمي / وزارة التعليم العالي والبحث العلمي) عن خطابٍ عدائيٍ واضِحٍ، ينتِقِص من قيمة القيم الأكاديميَّة: «الأستاذ الجامعي». فمصطلح «الانحراف في التصحيح» ابتكارُ هذا الكتاب، ولم تألَفهُ – ولم يَرِد في - كل القوانين والتعليمات المرتبطة بالتعليم العالي العراقي مُنذُ تأسيسِهِ.

......

أولاً: أسباب نسبة نجاح الطلبة:

ينص الكِتاب أنَّ انخفاض نسبة نجاح الطلبة لدى بعض التدريسيين «يعكس – معظم الأحيان – انحراف التدريسي بالتصحيح او ضعفه في إيصال المادة العلمية او استخدامه طرائق تدريس لا تنسجم مع المستوى الفكري للطلبة». وهذا التفسير لا يقول بهِ من لديهِ أدنى معرفةٍ بطبيعَة العمليَّة التعليميَّة، ولا أدري من أي دراسةٍ استخلَصَ «معظم الأحيان»، فمن البديهيَّات – لدى المُتخصصين وحتى المُهتمين – أنَّ أسباب نسبة النجاح مُتعددة: خصائص الطالِب وقدراته، وخصائص الأستاذ وقدراته، وطبيعة المادَّة الدراسية، والبيئة الجامعيَّة الماديَّة والثقافيَّة والمؤسسيَّة، والظروف الاجتماعيَّة الخاصَّة والعامَّة. نعم، قد يكون ضعف أو ظُلم الأستاذ سبباً، ولكن ليس هو السبب الرئيس بالضرورة، ولا يُمكن أن نحكم بذلك ما لم ندرس العوامِل الكثيرة الأخرى بطريقَةٍ دقيقة وتفصيلية، إذ قد يتبيَّن أن السبب في ذلك ضعف المهارات الدراسيَّة للطلبَة وانخفاض دافعيتهم، أو الثقافة اللاعلمية السائِدة في المجال الجامعي والاجتماعي، أو افتقار الجامعة للبنية المؤسسية – القانونيَّة والإداريَّة والماديَّة – المناسبة لتحقيق تعلم فاعِل، والعامِلان الأخيران واضحان جداً، وبذلك فسببيتهما المُحتملة راجِحَة. وما إفرادُ الأُستاذِ إلا مُعتقدٌ شعبوي عِدائي لاعلمي، دأبَت على تكريسهِ السلطات والثقافَات السلبيَّة – بقصدٍ أو بدونه - لتقليلِ قيمة الأستاذ وتحميلِهِ مسؤوليَّة الفَشَل الناجِم عن غيرِهِ، لكونِهِ – في السياق اللاعلمي – أضعَف الحلقات في المجال الأكاديمي، لتُنجِزَ – عبر ذلك - قتل الجامِعَة كمؤسسة تنويريَّة وتغييريَّة.

ثانياً: مصطلحات وممارسات لا قانونيَّة:

«نسبة النجاح – 30 % - الدرجات اليائسة – إعادة التصحيح» مفرداتٌ غريبة عن النصوص القانونيَّة الراسخة في التعليم العالي. فقد نجدُ في التربية تداول «نسبة النجاح»، ولكن التعليم العالي لم يألَف الحديث عن ذلك، لأنَّهُ «تعليمٌ عالٍ»، اشتغاله على «عمق اكتساب المعرفة» وليس «النجاح» بكل طريقة مُتاحة. و»الدرجات اليائسة» كلمة مُتداوَلَة – شفاهياً – عند التائِقينَ للنجاح المجاني، وهي بذاتها لا معنى لها، فالسعيُ – السنوي أو الفصلي – الجامعي أقلُّ من (50)، إذ هو عادةً (30-40)، وبذلك ليس هناك درجةٌ يائسة، فمن يدخل الامتحان وسعيه (0) يمكنه النجاح إذا حقق (50 من 60 أو من 70)، بينما قد يدخل الامتحان بسعيٍ عالٍ ولا ينجح، وكلا الحالتين واقعتين. أما «إعادة التصحيح» فهذهِ جريمَة في السياق التعليمي، فليس هناك سلطة تمتلك الحق بإعادة تصحيح الدفاتر الامتحانيَّة الجامعيَّة. والأجوبَة النموذجية تُطلَب – فقط – خشية أن يغيب الأستاذ ولا يتمكَّن من التصحيح، فعند ذلك – فقط – تُستَعمَل للتصحيحِ بدلاً عنه، فالقانون العراقي – تكريساً لقيمة الأستاذ الجامعي وحمايةً له وثقةً به – منع مراجعة تصحيحه مهما كانت الظروف والمبررات.

ثالثاً: ارتباك النص:

يقول الكتاب:

«1- توجيه استفسار من قبل عميد الكلية إلى التدريسي الذي تكون نسبة نجاح طلبته أقل من 30%. 2- في حال عدم قناعة رئيس القسم/الفرع بالأسباب التي قدمها التدريسي عن نسبة النجاح أعلاه يصار إلى تشكيل لجنة لإعادة التصحيح وفق الإجابة النموذجية بعد توصية يقدمها رئيس القسم/الفرع إلى مجلس الكلية وفق الفقرة (ب)/2 المادة (20) قانون وزارة التعليم العالي رقم (40) لسنة 1988». وهاتان الفقرتان من أغرب ما قرأته.

(1) لا أفهَم كيف أنَّ العميد يوجه الاستفسار ورئيس القسم مَن يقتنع به، المفروض إما أنَّ العميد يوجه ويقتنع أو رئيس القسم يوجه ويقتنع، أما أن العميد يوجه وينسحب، ورئيس القسم يتسلم الإجابة ويحكم ويوصي بناءً عليها، فذلك من العجائِب.

(2) أن يوصي رئيس القسم بتشكيل لجنة لإعادة التصحيح فهذه عجيبة أخرى، فضلاً عن كون إعادة التصحيح – كما ذكرنا – ليس من صلاحياته ولا من صلاحيات من هو أعلى منه، يُفترض به أن يشكل “لجنة تدقيقيَّة” لدراسة الموضوع، وهذا هو السياق القانوني والإداري الثابت في التعليم العالي.

(3) الاستناد إلى المادة القانونيَّة المذكورة أغرَب، إذ تنص المادة (20) المرتبطة بـ (اختصاصات مجلس الكلية) في 2 (الاختصاصات الإداريَّة): “ب – الإشراف على شؤون الطلبة والاهتمام بمختلف أوجه نشاطها العلمية والثقافية والتربوية والرياضية”، وكان الأجدى الاستناد - في القانون ذاته - إلى المادة (23) المرتبطة بـ (القسم العلمي): “6 – الإشراف على سير التدريسات وأساليب التدريس وتطويرها، وعلى قيام أعضاء الهيئة التدريسية ومنتسبي القسم بواجباتهم، وعلى الشؤون العلمية للطلبة في مختلف مراحل الدراسة عن طريق الإشراف العلمي والعملي المستمر عليهم”، لاسيما وأنَّ “القسم العلمي هو الوحدة العلميَّة الأساس في التعليم العالي” كما ينص مفتتح المادة هذه.

رابعاً: المعاقبة والاستبعاد:

يقول الكتاب: «3 – في حال وجدت اللجنة المكلفة بإعادة التصحيح أي انحراف في التصحيح بشكل يعكس اجحاف التدريسي بحق طلبته يصار إلى تشكيل لجنة تحقيقية بحق التدريسي لتوجيه عقوبة انضباطية بحقه واستبعاده عن وضع الأسئلة والتصحيح في الدور الثاني. 4 – في حال تكرار الحالة من قبل التدريسي يصار إلى استبعاده من التدريس وتحويله إلى المهام الإدارية مع إمكانية اعادته لمهام التدريس بعد دخوله دورة طرائق تدريس واجتيازه اختبار الصلاحية للتدريس مرة أخرى». وهاتان الفقرتان تضاعفان الغرابة.

(1) أكرر، لا قانونيَّة للجنة إعادة التصحيح، إذ لا يحق لكائِنٍ من كان أن يعيد التصحيح بعد الأستاذ، وعلى فرض أن هناك من يمكنه مراجعة – لا إعادة - التصحيح فهي اللجنة التدقيقية، التي تدرس جوانب الموضوع كافَّة، وفي حال وجدت تقصيراً لدى التدريسي توصي بإحالته إلى لجنة تحقيقيَّة.

(2) ليست وظيفة اللجنة التحقيقية توجيه عقوبة انضباطيَّة، بل أحد معطياتها، فاللجنة التحقيقية تُشكل لدراسة الموضوع بطريقة أعمَق، وقد تنقض ما توصلت إليه اللجنة التدقيقيَّة، وتخرج بتوصيات تنص على سلامة موقف التدريسي، كما قد تؤكد الخلل وتوصي – لا توجه – عقوبة انضباطية، فقد نص قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة (1991) المُعدل في المادة (10) على أن: “ثانياً: تتولى اللجنة التحقيقيَّة التحقيق ... وتحرر محضراً تثبت فيه ما اتخذته من إجراءات وما سمعته من أقوال مع توصياتها المُسببة، إما بعدم مسائلة الموظف وغلق التحقيق أو بفرض إحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون”. أما أن يقول الكتاب: “تشكيل لجنة تحقيقية بحق التدريسي لتوجيه عقوبة انضباطية بحقه” فهذا من العدائيَّة اللامهنيَّة الواضحة، إضافَة إلى كونه يوحي بجهلٍ بطبيعة عمل وصلاحيات اللجان التحقيقيَّة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

فشل المشروع الطائفي في العراق

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

صحيفة بريطانية: قائد اركان الجيش الأمريكي يزور دولتين عربيتين لاقامة "تحالف" ضد ايران

متابعة/ المدى كشفت صحيفة تريبيون البريطانية، اليوم السبت، عن وصول قائد اركان الجيش الأمريكي الجرنال سي كي براون بزيارة غير معلنة الى الأردن لبحث إقامة "تحالف إقليمي" لحماية إسرائيل.  وذكرت الصحيفة، ان القائد الأمريكي...

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram