ثائر صالح

نعرف في تاريخ الموسيقى “معجزة” حدثت أثناء زيارة هايدن الثانية إلى بريطانيا، عندما هوت إلى الأرض ثريا ضخمة معلقة في سقف بهو القاعة يوم 11 آذار 1791، ولحسن الحظ لم يصب أحد بأذى، إذ كان المكان تحتها خاليا فقد تجمهر الجميع عند حافة المسرح للإحتفاء بهايدن وسيمفونيته رقم 96 التي كُنّيت بالمعجزة لهذا السبب.

لكني اليوم أتحدث عن معجزة أخرى، معاصرة، تتعلق بعازف الهورن الألماني الشاب فيلكس كليسر (ولد في 1991). فقد تمكن بجهود جبارة تعلم العزف على هذه الأداة النحاسية الجميلة وبدأ يحصل على الكثير من الجوائز وأخذ يشق طريقه إلى العالمية. أخذ دروس الموسيقى الأولى وهو في الخامسة من العمر، رغم أن عائلته لم تكن معنية بالموسيقى، ولم تذهب إلى أي حفلة موسيقية ولم تعرف حتى ما هو هذا الهورن الفرنسي الذي يود تعلم العزف عليه. دخل جامعة الموسيقى والمسرح في هانوفر وهو في الثالثة عشرة وتدرب إلى أن حصل في 2014 على جائزة “أيكو كلاسيك” وهي أهم جائزة في مجال الموسيقى الكلاسيكية في ألمانيا باثنتين وعشرين صنف (حصل على الجائزة في صنف أفضل موسيقى شاب) ثم نشر كتاباً يتحدث فيه عن سيرة حياته الاستثنائية. أمضى مؤخرا سنتين في بريطانيا كفنان مقيم لدى أوركسترا بورنموث السيمفونية المعروفة وقدم معها كونشرتو الهورن رقم 4 من تأليف موتسارت وذلك على قاعة البرت الملكية ضمن مهرجان البرومز اللندني الحالي في الثاني من آب الماضي بنجاح ساحق. قام بجولة واسعة في الولايات المتحدة ربيع العام الماضي مع فرقة بازل لموسيقى الحجرة والتنور الشهير إيان بوستريج. يكثر من النشاطات في تقديم موسيقى الحجرة في مختلف المهرجانات في ألمانيا وخارجها مع مختلف التشكيلات والفنانين الكبار، مثل بوريس كوزنيتسوف وتانيا تتسلاف والرباعي الوتري الدنماركي.

لكن ما هو وجه المعجزة في الأمر؟

ولد فيلكس كليسر من دون يدين، وهو يستعمل أصابع قدمه ليضغط على مكابس الهورن الذي يثبّت على ستاند ثلاثي الأرجل. أما “جرس” الهورن الذي اعتاد العازفون دسّ يدهم اليسرى فيه للتأثير على نوعية وطبيعة الصوت، فيتركه فارغاً ويحاول التحكم بنوعية الصوت بطرق أخرى. وحقيقة وجود المكابس في الهورن بدلاً من الثقوب التي ميزت الهورن الطبيعي لقرون حررت العازف من ضرورة استعمال اليد اليسرى في الهورن الطبيعي من أجل إصدار بعض النغمات وتحسين الأداء.

عانى فيلكس سابقاً من الكثير من الفشل عند صعوده المسرح حتى فهم السبب. فقد كان يتدرب في بيت أهله المفروش بالسجاد، مما يؤثر على نوعية الصوت وشعوره بالارتياح، فقرر التمرين في الحمام، وهو المكان الوحيد في البيت الذي يخلو من السجاد، علاوة على سوء الصدى ونوعية الصوت فيه. استمر في التمرين هناك إلى أن أخذ يشعر بالاعتياد على المكان وصوته، مما ساعده كثيراً.

يعتبر كليسر الهورن صديقاً له، يكلمه ويتحاور معه، وقد بدأ ذلك مع الإغلاق العالمي بسبب مرض الكورونا وإهمال التمرين على الهورن بسبب إلغاء الحفلات إلى أن بدأ يعامله كصديق.