TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نقد العَقل الانحرافي.. قراءة نقديَّة لكتابِ وزارة التعليم العالي!

نقد العَقل الانحرافي.. قراءة نقديَّة لكتابِ وزارة التعليم العالي!

نشر في: 10 سبتمبر, 2023: 11:39 م

د.لؤي خزعل جبر

2-2

(3) تحديد "الانحراف" من الموضوعات الصعبة، فالاستناد إلى الإجابة النموذجيَّة غير كافٍ، والمطالبة بالإجابة النموذجيَّة – كما ذكرنا – إنما وجد تحسباً لغياب التدريسي، وبوجوده لا قيمة للإجابة النموذجيَّة، فمن البديهيات المعروفة لدى كل التدريسيين أنَّ التصحيح يعتمد على ما هو أوسع من الإجابة النموذجيَّة، وخاصَة في الأسئلة المقاليَّة، التي لو حُكِّمَت فيها الإجابَة النموذجية لما نجح طالِب، إلا إذا كان المطلوب كتابة حرفيَّة للمادَّة، وهو فرضٌ مستحيل لعموم الطلبة.

(4) لا علاقَة بين الانحراف في التصحيح وضعف في طريقة التدريس ليُشترط لإعادة التدريسي إلى التدريس "دخوله دورة طرائق تدريس واجتيازه اختبار الصلاحية للتدريس مرة أخرى". فالانحراف في التصحيح "ظُلم"، يشير قيام التدريسي – عن علمٍ وعمدٍ – بإعطاء درجات غير مستحقَّة للطلبة، وهو خلل سلوكي قيمي، بينما "ضعف التدريس" "قدرَات" و"مهارات"، قد تكون موجودة عند التدريسي الظالِم، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى دورة في طرائق التدريس وإنما في الأخلاق.

(5) التحويل إلى المهام الإدارية ليس من صلاحية أحد، فالأستاذ تدريسي بشهادته ولقبه واجتيازه لصلاحية التدريس، وكما ورد في المادة (24) من قانون التعليم العالي: "تتألف الهيئة التدريسيَّة في الجامعات وهيئة التعليم التقني من: 1- الأساتذة. 2- الأساتذة المساعدين. 3- المدرسين. 4- المدرسين المساعدين"، ولا يحق لأحدٍ سلبهم صفة الهيئة التدريسيَّة. وليس هناك في كل قوانين التعليم العالي ما يسمح بسلب تدريسيَّة التدريسي وتحويله إلى المهام الإداريَّة. نعم، قد يعاقب التدريسي – لأسباب معينة – بالعقوبات الانضباطيَّة المعروفة في قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام، من لفت النظر إلى العزل، بحسب نوع المخالفة، ولكن لا تُسلَب تدريسيَّته. وهذا التهديد يتكرر – شفاهاً – عند السلطات الجامعيَّة، رغم لا قانونيَّته، لإخضاعِ المُخالفين، لاسيما وأنَّهُ – إضافة إلى إهانته الاعتباريَّة – يتضمن تهديداً اقتصادياً بعدم شمول التدريسي بمخصصات الخدمة الجامعيَّة، فيُستعمَل للضغط على التدريسي باستحقاقاته الماليَّة، وهي وسيلة لا تليق بالمجال الجامعي.

خامساً: الأسئلة البائِسَة:

يقول الكتاب: "5 – التأكيد على رئيس القسم/الفرع بضرورة تدقيق الأسئلة والأجوبة النموذجية وأن تكون محددة بشكل دقيق وتحمل اجابات مباشرة لا تحتمل التأويل". هذه الفقرة كارِثة، وعارٌ على التعليم العالي، ومخالفة صريحة لتعليمات الأسئلة الامتحانيَّة رقم (38) لسنة (1992).

(1) نصَّت تعليمات الأسئلة الامتحانية المذكورة في المادة (1) على أن الأسئلة الامتحانية تهدف إلى "أولاً – قياس مدى استيعاب الطالب للمعلومات والأفكار العامَّة التي يتضمنها المنهج الدراسي ومدى قدرته على التفكير والتحليل. ثانياً – قياس قدرة الطالب على التعبير عن المعلومات التي اكتسبها، وتقديمها وعرضها بشكل منظم"، ولتحقيق ذلك نصَّت المادة (2) على أنه يشترط في الأسئلة: "أولاً – أن تتسم بالتنوع، وأن لا تقتصر على نمط واحد، مع ضرورة تحقيق الموازنة بين الأسئلة التي تتطلب كتابة مقال منظم وفق خطة عن موضوع ما والأسئلة التي تعتمد على دراسة الطالب للمواضيع التي طرحت في المنهج الدراسي. ثانياً – أن تكون واضحة ومحددة في صياغتها. ثالثاً – أن لا تكون جميع الأسئلة وصفية مباشرة، بل تتضمن مجالاً للمقارنة والربط بين العناصر المختلفة للمادة ومعبرة عن وجهات النظر المختلفة للمادة والدفاع عنها أو نقدها بما يساعد على الكشف عن قدرات الطالب المعرفية ضمن المنهج الدراسي". ومقارنة بسيطة بين هذه الأهداف والشروط وبين ما نصت عليه فقرة الكتاب تكشف عن الكارثة.

(2) يفترض بالوزارة التأكيد على تطبيق هذه الشروط، بدل انتهاكها بهذه الطريقة الفجَّة، فهذه الشروط اعتقد أنها غير مطبقة بشكلٍ كافٍ تماماً، بسبب الثقافة التساهلية والضغط السلطوي من أجل النجاح المجاني، والضعف الهائِل لطلبة الجامعة، وأزعُم – بل أجزِم – بأنها لو طُبقت لما نجح إلا الأندَر الأندَر من الطلبة. هذا ما يجب أن نفكر فيه، ونخطط له، وندفع باتجاهه، لا أن نسعي إلى مزيد ابتذالٍ وانتهاكٍ للقيم المعرفيَّة.

(3) الأجوبة النموذجيَّة احترازيَّة، وليست أساسيَّة، فهي – كما ذكرنا – تحوط لاحتمال غياب التدريسي، ولذلك لم يأتِ ذكرها – مطلقاً – في تعليمات الأسئلة الامتحانيَّة، وليس من وظيفة رئيس القسم تدقيق الأجوبة، بل الأسئلة، إذ نصَّت المادة (3) من التعليمات على أن "يطلع رئيس القسم على الأسئلة الامتحانية وله تدقيق مدى انطباق الشروط المنصوص عليها في المادة 2 من هذه التعليمات والاعتراض على الأسئلة التي لا تنسجم وهذه الشروط". فرئيس القسم مُلزَمٌ – قانوناً – بمخالفة كتاب الوزارة لكونه مخالفٌ للتعليمات القانونيَّة، وعليه أن يعترض على كون الأسئلة مُباشرة، ولا تتضمن أسئلة تتطلب إجابات تكشف عن القدرات التحليلية والتعبيرية الواسِعَة والعميقَة والجدليَّة.

سادساً: التلاعب بدرجات السعي:

يقول الكتاب: "6 - ضرورة قيام رئيس القسم/الفرع بتدقيق السعي السنوي الممنوح من قبل التدريسي ومعالجة حالات درجات السعي اليائسة التي ينتهي معها أمل الطالب بالنجاح وذلك من خلال الإيعاز للتدريسي بإعادة النظر بمثل هكذا درجات". هذه الفقرة تتضمن دعوة صريحة للتلاعب بدرجات السعي دون مبررات علميَّة وقانونيَّة.

(1) مصطلح "الدرجات اليائسة" – كما بينا – لا وجود له في القاموس القانوني والإداري للتعليم العالي، وإنما هو مصطلح شفاهي، ولا معنى له. وذكره في كتاب رسمي ما هو إلا شرعنةٍ له، وإقحامٍ لما هو غير أكاديمي في السياق الأكاديمي.

(2) درجات السعي تتكون من فقرات معروفة (امتحان تحريري / تقارير علمية / مُشاركة صفيَّة)، ولكل منها درجاته المحددة، التي تُجمع لتكونه. ولذلك من السهل الكشف عن كون الدرجة الموضوعة – سواء كانت مرتفعة أو منخفضة – باستحقاق الطالب أم بجور التدريسي، عبر مراجعة الأوليات. فإذا افترضنا أن طالباً ما لم يمتحن أو امتحن ولم يُجِب ولم يقدم التقارير المطلوبَة ولم يُشارك في الصف، رغم كفائة الأستاذ وتأكيداته ومحاولاته المتكررة لاستنهاضه، فجاء سعيه – باستحقاقه - منخفضاً، فهل من المهني والقانوني والعدالوي أن نضيف له درجات توصله إلى درجة سعي مساوية لدرجة أخذها طالب آخر باستحقاقه.

(3) هذه الفقرة تهدد – بوضوح – رئيس القسم والتدريسي، وتلزمهما بالتلاعب بدرجات السعي. نعم، إذا شك رئيس القسم بعدالة أو موضوعية درجات السعي يُمكنه التحقق من الأوليات، وإذا كانت سليمة فلا يحق ولا يجوز له "الإيعاز إلى التدريسي بإعادة النظر بمثل هكذا درجات".

سابعاً: المعالجات المُتحيزة:

يختتم الكتاب بالقول: "7 – ضرورة عدم زج التدريسيين المُعينين الجدد والذين ليس لديهم خبرة كافية في التدريس مباشرة... 8 – إعادة النظر بدورات طرائِق التدريس بما يضمن تطوير مهارات التدريسيين.... ". هذه الخاتمة تؤكد الأُحاديَّة العدائيَّة، فالكتاب يجزم – تماماً - بأن السبب "الوحيد" لانخفاض نسبة النجاح هو "التدريسي"، إذ لا توجد أدنى إشارة إلى سبب آخر، ولا توصية بمعالجة عوامِلٍ أخرى إطلاقاً. وهذه الرؤية خطرة، والخطاب الضمني أخطَر.

. ثامناً: نسبة النجاح المرتفعة: ألا يُحتَمَل أن تكون نسبة النجاح المرتفعة نتيجة "الانحراف في التصحيح"؟ الكتابُ ساكت – تماماً – عن هذه النقطة، بينما هي واردة، وواردة كثيراً، بسبب ثقافَة "التمشية" وضغوط "التهديد"، إذ هناك الأستاذ المُتساهِل، الذي لا يعنيه التعليم، ويعمل – كسباً لود السلطة والطلبة – على إنجاحهم بدون استحقاق، أليس إنجاح طالِب فاشل يعادل إفشال طالبٍ ناجح؟ إذن يجب التحقق من النسب المرتفعة كذلك، والمحاسبة عليها، طبعاً بطريقة سليمة، لا بطريقة الكتاب الحالي.

خاتمة فكريَّة:

دلالات الخِطاب العدائي: لماذا هذا الكتاب؟ وما دلالاته؟ التعليم العالي في العراق شهد تأسيساً رصيناً – إلى حد كبير – من الأربعينات إلى الستينات، حتى حلَّت اللحظة البعثيَّة التسلطيَّة والتوتاليتاريَّة، التي عملِت على "تبعيث" التعليم العالي، بتفريغِهِ من قيمهِ ومُسلماته الحقيقيَّة، وتحويل الجامعة إلى منبرٍ سياسي، فأخذت البنية الأكاديميَّة – في السبعينات والثمانينات والتسعينات – بالتخلخل الشديد، وبعد زوال التوتاليتارية، وانبثاق المُحاصصيَّة، واتكاء سلطتها على الشعبويَّة، تحولت الجامعة – والمدرسة كذلك - إلى منبرٍ شعبوي، فبعد الضعف السابِق كان المجال مُتاحاً لتكريس القيم اللاأكاديميَّة، فسُحقت قيمة البحث والتدريس، وتغولت ثقافَة النجاح المجاني، ونشطت الممارسات البروتوكوليَّة الفارِغَة، وهُمش الأستاذ ليكون في ذيل قائمة الاهتمامات، مُجرَّدَ مُطيع ومنفذ للتعليمات، حتى صار ما كانَ يُتداوَل شفاهاً، من قناعات شعبيَّة خاطئة، ثقافة مُستقرَّة، شُرعِنَت بكتب رسميَّة. فبدل أن نقف – بجدٍ – لمسائلة التدهور العميق للجامعة العراقيَّة، أخذنا نبحث عن "كبش فداءٍ" للفشل مُتعدد العوامِل، فكان الأستاذ، لكونه أضعف حلقة، وبعد أن سلبناه قيمته وفاعليته، ولم يتبق له إلا سلطته على صَفهِ وأوراقه الامتحانية، جئنا لنسلبه ذلك!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: حدثنا نور زهير!!

وراء القصد.. ولا تيفو.. عن حمودي الحارثي

فشل المشروع الطائفي في العراق

شعراء الأُسر الدينية.. انتصروا للمرأة

العمودالثامن: فاصل ونواصل

العمودالثامن: حين يقول لنا نور زهير "خلوها بيناتنه"!!

 علي حسين إذا افترضا أن لا شيء في السياسة يحدث بالمصادفة، فإنه يفترض أن نوجه تحية كبيرة للذين يقفون وراء كوميديا نور زهير الساخرة ، فبعد أن خرج علينا صاحب سرقة القرن بكامل...
علي حسين

باليت المدى: الرجل الذي جعلني سعيداً

 ستار كاووش كل إبداع يحتاج الى شيء من الجنون، وحين يمتزج هذا الجنون ببعض الخيال فستكون النتيجة مذهلة. كما فعل الفنان جاي برونيه الذي أثبتَ ان الفن الجميل ينبع من روح الانسان، والابداع...
ستار كاووش

صحيفة بريطانية: قائد اركان الجيش الأمريكي يزور دولتين عربيتين لاقامة "تحالف" ضد ايران

متابعة/ المدى كشفت صحيفة تريبيون البريطانية، اليوم السبت، عن وصول قائد اركان الجيش الأمريكي الجرنال سي كي براون بزيارة غير معلنة الى الأردن لبحث إقامة "تحالف إقليمي" لحماية إسرائيل.  وذكرت الصحيفة، ان القائد الأمريكي...

كلاكيت: ألان ديلون منحه الطليان شهرته وأهملته هوليوود

 علاء المفرجي في منتصف السبعينيات شاهدت فيلمه (رجلان في مأزق) وهو الاسم التجاري له، في سينما النجوم في بغداد، وكان من إخراج خوسيه جيوفاني، ولا يمكن لي أن انسى المشهد الذي يوقظه فيه فجرا...
علاء المفرجي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram