ستار كاووش
مثلما يحمل الجمال سحره وجاذبيته، فهو يحمل قوته أيضاً، هذا ما شعرتُ به وأنا أخرج من متحف خروننغ في مدينة بروخة، وأمضي نحو وسط المدينة حيث الأماكن المفتوحة التي امتلأتْ بالناس الذين جاءوا من كل العالم ليتمتعوا بجمال هذه المدينة التي بَدَتْ كل تفاصيلها وبناياتها وطرقاتها تشبه اللوحات القديمة، حتى سواقيها، كإنها ذات السواقي التي كان يمر جنبها سكان المدينة قبل أكثر من ستمائة سنة.
يا للمدينة التي قاومت السنوات وتغلبت على الزمن، وبقيت شاخصة وجمالها يتجدد. خطوات قليلة داخل المدينة كانت كافية لأصل الى عربة تتطاير منها رائحة الأكلات البحرية، توقفت وطلبتُ طبقاً من الجانبري مع البطاطا وأنا أفكر بخطواتي القادمة. كانت هذه الوجبة كافية لمنحي بعض الطاقة لإكمال جولتي والسير بين بنايات المدينة التي غدتْ كإنها ديكورات أو موقع لتصوير أحد الأفلام التاريخية. وحين صرتُ بمحاذاة أحد الجداول، صار المشهد كإنه واحدة من لوحات جيمس أنسور المزدحمة بالناس والألوان، وبانت على حافة الجدول بعض المراكب التي امتلأتْ بالناس الذين يقومون بجولات مائية في المدينة، وإمتَدَّتْ بمحاذاتهم على الناصية، طاولات المقاهي التي إكتظَّتْ بالنساء والرجال الذين لا يفصلهم عن الماء سوى صف مزهريات مليئة بورود صفراء وبيضاء تعلن عن هذا اليوم الذهبي الذي سيبقى في الذاكرة.
كل المدينة يمكن مشاهدتها سيراً على الأقدام، وهذه فرصة رائعة لي، أنا المحب للمشي والتجوال بين معالم المدن وأرصفتها القديمة.
تطلعتُ الى بعض تماثيل المدينة التي تحكي قصتها أيضاً، وتوازي بذلك جمال لوحات رساميها الكبار، ثم عطفتُ نحو أحد الشوارع، فلاحتْ لي دمية كبيرة لشخصية تان تان وهو يفتح يديه مرحباً وكإنه يشير لي كي أكمل الطريق، وكانت بداية جيدة لأمضي في الشارع حتى نهايته حيث ظهر سُلَّم ينزل تحت الأرض ويؤدي الى قبو قديم، هو عبارة عن واحد من أقدم مقاهي المدينة، وليس بعيداً عنه عدد من مصانع الجعة الشهيرة التي تأسست في المدينة منذ قرون بعيدة، والتي تحمل أسماء طريفة مثل (نصف القمر) و (الأرنب النشيط) وغيرها، وهي عبارة عن تحف معمارية وفنية، حيث تشم عطر التاريخ قبلَ أن تصلكَ رائحة الجعة، وتشعر بغنى المدينة من خلال البوابات الكبيرة والحجر القديم وألوان النوافد والأبواب، وحتى أضويتها الخارجية بانت عليها بصمات الزمن، وكإنها -مثل باقي تفاصيل المدينة- لا تكف عن تذكيري بأمجاد هذه القطعة الفرية من الأرض.
في طريقي لساحة السوق الكبيرة، مررتُ بجانب إحدى الكنائس وسمعت تراتيل خفيفة، فدخلت بهدوء لأنضم الى مجاميع من الناس وهم يرددون بعض النصوص، كنا محاطين بنوافذ زجاجية كبيرة معشقة بالرصاص، ومُزينة برسومات مشعة ورائعة، رسومات جعلتني أشعر كإننا قد تحولنا الى جزء من لوحة لشاغال. خرجتُ من الكنيسة، لتنتصب أمامي بعض البيوت التي تعود لعصر الباروك، نظرت اليها وتخيلتُ كيف كان الناس يعيشون هنا، تحسستُ لون الأبواب وبعض الحواشي المذهبة للجدران، وإقتربتُ من التفاصيل أكثر حتى شعرت بأني جزء من تاريخ المدينة. وقبل أن أصل الى السوق الكبير، كان عليَّ قطع بعض الممرات والجدران التي صمدت مئات السنين كي تبقى شاهدة على جمال الانسان وهو يصنع تاريخه بيديه، لا توقفه الحروب ولا تؤثر عليه النزاعات ولا النزعات، وبعد كل كارثة تمر بالمدينة يعود الناس لبناءها من جديد، كما حصل مع هذه المدينة التي ظلت شاهد لقوة الجمال وجمال القوة.
كلما تمضي السنوات تكبر جاذبية بروخه كمدينة تاريخية، وحين كتب الروائي البلجيكي جورج رودنباخ روايته (موت بروخه) سنة ١٨٩٢ حصلت المدينة على الكثير من الانتباه، بسبب الغموض الذي وصفها به. وحين أقامَ البدائيين الفلمنكيين معرضهم الشهير سنة ١٩٠٢ كانت بروخه تقف بثقة كواحدة من المدن الثقافية والسياحية. ومضت السنوات، ليقام فيها ترينالي بروخه ابتداءً من سنة ١٩٦٨ (ترينالي يعني معرض تشكيلي عالمي يقام كل ثلاث سنوات) والذي تضمن أيضاً معرضاً في الهواء الطلق، لمعماريين ونحاتين، ليمنح هذا الحدث سمعة فنية وثقافية كبيرة للمدينة. وإضافة الـي كل ذلك تشتهر بروخه بصناعة الشوكولاته وتحضير المعجنات، كذلك هي معروفة بصناعة الجبن الذي يتم تعتيقه بالطريقة القديمة في دير الرب المقدس.
عُمرُ مدينة بروخه، هو ألف سنة تقريباً، وهذا ما مكتوب على بعض القطع النقدية التي تعود للمدينة، والتي تم فيها أيضاً، بناء أول مبنى للبورصة في العالم والذي يشمل مكاناً لإجتماع التجار الذين يأتون من بقاع مختلفة. كذلك ضمت المدينة الكثير من الفنانين والمعماريين الذي أثروا عليها ثقافياً وتاريخياً واقتصادياً. وسط هذا الجمال والتاريخ يسترخي الناس وهم يذوبون في ملامح المدينة وينسجمون معها، وهذا ما فعلتُهُ تماماً. وبعد إستراحة قصيرة على حافة القناة التي تشق وسط المدينة، فكرت بالبيوت والكنائس والمتاحف والساحات وواجهات البنايات التي بدت كإنها خرجت من واحدة من اللوحات الفلامنكية، لتحكي قصة المدينة التي كانت العاصمة الاقتصادية لشمال غرب أوروبا في القرن الخامس عشر، والتي بقيت على حالها، كإنها ترتدي ثوب فلاحة فلامنكية من القرون الوسطى، لذا كانت تستحق بفخر إختيارها من قبل اليونيسكو لتكون في صدارة قائمة التراث العالمي.
أعود بذاكرتي الآن الى سنة ٢٠٠١ حيث أقمت معرضي الشخصي في مدينة روتردام الهولندية بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة الاوروبية في تلك السنة، كنتُ منشغلاً وقتها بتعليق اللوحات حين سمعتُ بأن مدينة بروخه البلجيكية تمهد نفسها لحدث ثقافي كبير. وفعلاً تم إختيارها سنة ٢٠٠٢ لتكون عاصمة الثقافة الأوروبية. وهنا ربحت الثقافة حدثاً فريداً إسمه… مدينة بروخه.