طالب عبد العزيز
الحياة العراقية هشةٌ وبلا تقاليد، وإن قامت ذات يوم فهي لم تتراتب في قيامتها، هناك فجوات تاريخية، ونكوصات لا حدود لها، ومؤسسات الهدم آخذة بناصية معولها، تعمل على تقويض القائم الهزيل منها، وإذا فحصنا المشهد ملياً سنجد أنَّ لبنات المدنية، التي تشكلت عقب تأسيس الدولة العراقية سنة 1921 لم تستمر طويلاً،
ولم يستقم لها عود، وتتضح معالمها أو نجد تحققها في المجتمع العراقي، إذ سرعان ما تقوضت وانهارت بسبب الانقلابات العسكرية، التي توالت في خمسينات وستينات القرن الماضي، القضية التي استمرت بقرض تفاصيل الحياة الاخرى الى اليوم.
جرت العادة أنْ تتراجع الميثولوجيا أمام العلم، وتصاب الدولة الثيوقراطية بالوهن عبر الزمن، فالاديان والمذاهب وعموم الفلسفة الماورائية لا تصمد امام العلم، إن لم تدحض به، وبفعل التطور وحركة الزمن السريعة، ففي العادة نجد أنَّ الدولة الدينية تنشأ قوية، وتحكم قبضتها، وتستمر لحين من الدهر، ثم تبدأ بالضعف والتراجع، بحكم الاسئلة الكبرى التي لا تملك إجاباتها، لكنَّ هذا ما لم يحدث في الحياة العراقية، فنحن نشهد تراجعاً في حياتنا المدنية وزوالاً لقيمنا الحضرية مقابل مكنة وهيمنة مطلقةً للسلطة الدينية. فقدت المسيحية سلطتها القوية في أوربا وتراخت قبضتها، ولم تعد قائمة في تفاصيل الحياة، كذلك اليهودية، وحده الانسان العراقي، بوعيه أو بغير وعيه، يعمل على تقويض المدنية، متطلعاً لقيامة الدولة الدينية، التي يعتقد بانها سبيله الوحيد الى المستقبل الآمن.
تقويض الدولة المدنية يعني هدم جملة ما بناه الانسان، وعمل على تأسيسه، ليقينه بأنَّ حياته إنما تقوم على ذلك، ولا قيامة لحياته خارجها، بمعنى أنَّ حقوق الانسان في العيش بكرامة، بعيداً عن التهديد والاقصاء والملاحقة هو جزء من متحققات الدولة المدنية، وأنَّ مفهوم المواطنة، خارج العرق والدين والطائفة والمذهب ركن أساس في فكر الدولة المدنية، ومثل هذه وتلك حقوق المرأة والطفل والحيوان ووو. كل ذلك يجري على وفق قانون شُرِّع بعقل تواترت عليه المعارف والتجاريب، ولم يعد فضلاً أو منةً من أحد، لكنَّ الحياة هذه لا تتسق مع فكرة الدولة الدينية في العراق، أو ما يشاع على أنها (دينية) مع يقيننا بانها إنما تتخذ من الدين صولجاناً تهدد المدنية به.
هناك حلف وعقد مقدس وتخادم ممنهج بين العسكر والدكتاتورية والدولة الثيوقراطية، تعمل مجتمعة على تقويض المؤسسات المدنية والحد من النزوع الحضري عند الفرد، لأنك ذلك يتعارض مع فكرتها في الهيمنة والاستبداد، ولعل ما جرى من اقصاء للحياة المدنية في العراق إنما تم على يد الثلاثي هذا، وخير من يطلعنا على ما جرى هي كتب السير، مثل كتابي بلقيس شرارة (هكذا مرت الايام) و(رفعة الجادرجي) وكتاب مي مظفر (أنا ورافع الناصري -سيرة الماء والنار)أو كتاب نجيب المانع (عمر أكلته الحروف) ونجد مثلها ايضاً في مدونات عراقية أخرى.
في الكتب هذه نتعرف على جوهر ما كان قائماً وجميلاً، وأُريدَ له أن يستمر، وانْ يكون الأنموذج العام للحياة، على الرغم من ضيق مساحته، ومحدودية الاسر التي تعملت معه، لكننا، نجد عمق وقوة الاواصرالجامعة له، في الفكر والفن والفلسفة والادب والسفر والعناية بالإنسان. لا يمكن لأي دولة أن تقوم خارج المفاهيم هذه، علوم الفنون والاداب وعموم اشتغلات الثقافة ليست اكسسوارات توضع على وجه السلطة، لتظهر وجهها الآخر، ولن يكون لها أيُّ معنى إذا اعتقدت بانها تتكرم به على القائمين في المفاصل العليا والنبيلة تلك. ما نلمسه من عطايا وهبات وتشريعات بائسة لا يقع في صميم عقل الدولة العراقية، هي تحاول استمالة القطاع الواسع من المثقفين في سبيل شرائهم، وإخضاعهم لسلطتها، وهي لا تعدو أكثر من وسيلة ناعمة من وسائل القمع.