لطفية الدليمي
منذ عقود بعيدة صارت اليوم نصف قرن وأنا أتفكّرُ في الخلفيات الثقافية والمجتمعية لحكايةٍ أخبرني إياها أحد أقربائي بعدما بدأ الدراسة في كلية الهندسة / قسم الهندسة الكهربائية في سبعينات القرن الماضي.
قال إنّ طلبة القسم المعماري كانوا يشكّلون (غيتو) فيما بينهم وقلّما يخالطون الطلبة من الاقسام الاخرى، ويتعاملون بغطرسة مكشوفة مع الآخرين عادّين أنفسهم طبقة طلابية لايصحُّ لها التبسّط مع الآخرين؛ بل ذهب بهم التطرّف حدّ التصريح بأنّ دراسة العمارة لايصحّ أن تكون في كلية هندسة وإنّما مستقلة لوحدها في مدرسة عمارة School of Architecture عملاً بالتقاليد السائدة في الجامعات الغربية. أنا من جانبي رأيتُ في الامر كلّه شيئاً من الحساسية الطبقية التي تغشى المرء في بدايات تشكّل رؤيته الثقافية والمجتمعية وهو في أطوار الشباب الاولى، وربما بسبب تفاوت معدلات البكالوريا وكون طلبة العمارة ضمن فئة أعلى المعدّلات؛ لكنّي برغم هذا حدستُ أنّ في الامر شيئاً من صوابية الوقائع المختبرة على أرض الواقع.
قد يبدو أمراً غريباً تناولُ العمارة بتفاصيل واسعة من جانب أيّ مثقف موصوف بالروائي أو الناقد الادبي. العكس هو الصحيح تماماً. لاأرى أنّ عُدّة أيّ روائي أو مشتغل في حقل الثقافة العامة ستكتمل من غير قراءات موسّعة في العمارة تاريخاً وممارسات مهنية. كتبتُ غير مرّة أنّ إطلالتنا الاولى كمجتمع عراقي وعربي على الحداثة جاء من بوّابة العمارة والتشكيل والشعر؛ وبالتالي سيكون إهتمامنا المضاعفُ بالعمارة أمراً له مسوّغاته البيّنة.
لاأظنني سأنسى يوماً تلك المقالة الرائعة المعنونة (أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة) التي ترجمها المهندس المعماري (محمود حمندي) عن كتاب بعنوان (العمارة وروح الإنسان) للبروفسور الأميركي (توماس هنت Thomas Hunt) الذي عمل لفترة طويلة أستاذاً للعمارة بجامعة ميشيغان. فتنتني اللغة الرائقة فائقة العذوبة والجمال التي كتب بها المترجم مقالته في مجلة (آفاق عربية) المنشورة في آذار 1978، ومنذئذٍ رحتُ أتابّع آثار ذلك المترجم المبهر وسواه من المترجمين في حقل العمارة واسع الأرجاء إلى جانب تعزيز قراءاتي في ميدان تأريخ العمارة ونظرياتها ومقارباتها الثقافية.
قرأتُ يوماً كتابين عظيمي التأثير في حقل الدراسات المعمارية و الثقافية بعامة: الأوّل بعنوان (المكان والزمان والعمارة Space, Time & Architecture) للمؤلف الذائع الصيت (سيغفريد غيديون)، والثاني هو (حركات حديثة في العمارة Modern Movements in Architecture)) للمنظّر والمؤرّخ الثقافي والمعماري (تشارلس جينكس)، ثمّ تتالت القراءات التي كان أخرها كتابان ترجمتهما الاستاذة (سعاد عبد علي مهدي) – ربما أصبحت دكتورة لاحقاً - وصدرا عن دار (المأمون) العراقية: الاول (التعقيد والتناقض في العمارة) لمؤلفه المعماري العالمي (روبرت فنتوري) الذي عمل في مشاريع عراقية وتوفّي قبل سنوات قليلة، والثاني هو (عصر أساطين العمارة) لمؤلفه (رايزر بانهام).
أثارت قراءاتي هذه جملة من التساؤلات المتواترة، وفي مقدمتها: لِمَ تُعدّ الممارسة المعمارية لدينا بعيدة الصلة عن الممارسات الثقافية العامة؟ يبدو لي أنّ الخلل يكمن في منظومة التعليم التي تكرّس نمطاً من الهرمية الطبقية التعليمية الموهومة التي تعمل بدورها على تكريس أنماط من الأنساق الثقافية التي تأبى الإستجابة لروح العصر ومتغيراته الثورية، وبموجب هذه الرؤية الهرمية تبدو الممارسة المعمارية نوعاً من الطقوسيات الكهنوتية المقفلة في إطار أقلية من المحظوظين الذين مسّتهم بركات آلهة العمارة التي ستجعل منهم كائنات متفرّدة تتسيّد الأعالي الوظيفية المهيمنة في المجتمع، وربّما ساهم في إشاعة هذا التصوّر كون أوائل المعماريين متحدّرين من عوائل ثرية ذات نفوذ مالي و / أو سياسي فاعل؛ ولمّا كان شكل الثراء في بلداننا غير المبتكِرة ولا المطوّرة للتقنيات الحديثة يتمظهر في الملكيات العقارية - أرضاً ومنشآت مشيّدة - فيكون من الطبيعي نشوء ميل تلقائي لتلك العوائل في جعل أبنائها ينكبّون على دراسة كلّ مالَهُ علاقة بالتطوير العقاري لتعظيم الفائدة المجتناة من الملكيات العقارية وتحقيق أقصى العوائد منها؛ في حين أنّ العمارة الغربية تطوّرت في مسارات موازية للتطوّر الحاصل في الرؤية الثقافية التي تسعى للإرتقاء بالوضع البشري، وتؤكد هذا الرأي حقيقةُ أنّ أعاظم المعماريين - الأوربيين بخاصة - إنّما كانوا من المثقفين الطلائعيين الذين شغلتهم هموم الإنسان ومكابداته قبل أي شيء آخر.
سيرى مَنْ قرأ للناقد الثقافي والمعماري (تشارلس جينكس) – الذي توفّي قبل بضع سنوات - أنّ كتاباته أقرب إلى كتابات النقّاد الثقافيين المعروفين (أمثال تيري إيغلتون وبل أشكروفت)؛ بل حتى أنّ مفرداته واشتغالاته المعرفية إنّما هي المفردات والإشتغالات ذاتها الشائعة في أدبيات الحداثة ومابعد الحداثة ومابعد الإنسانية،،، إلخ وليست إشتغالات نخبوية تسعى لخدمة جماعة منغلقة على ذاتها وبعيدة عن الهمّ الإنساني ومتطلّبات الإرتقاء بالأوضاع البشرية.
لابدّ هنا من الإشارة إلى الجهود العظيمة التي بدأنا نشهد ثمارها وقدرتها على نقل الممارسة المعمارية إلى فضاء الإشتغال الثقافي العام والإشتباك المحمود بين الهموم النخبوية والهموم الجمعية. من النزاهة الإشارةُ للكتب المميزة التالية: (دور المعمار في حضارة الإنسان) للرائد المعماري الراحل (رفعة الجادرجي)، و (مائة عام من عمارة الحداثة) للدكتور الاستاذ (خالد السلطاني)، وثلاثية المعمار الاستاذ معاذ الآلوسي التي صدر منها ثلاثة أجزاء: (نوستوس) و (توبوس) و (ذروموس).
هؤلاء المعماريون الثلاثة هم المؤنسنون الحقيقيون للعمارة العراقية، وأعني بالأنسنة هنا خصيصة دقيقة وليست كيفية: جَعْلُ العمارة العراقية نسقاً ضمن الانساق الثقافية وليس محض اشتغال مهني نخبوي لايعرف سوى التعامل مع الصفوة الثرية من البشر أو التعاقدات الحكومية الضخمة في قطاع الاشغال العامة.
أظنّ أنّ مساهمة الدكتور السلطاني في جهد الانسنة كان أكثر وضوحاً لأسباب كثيرة، منها: أنّ العمل في المكاتب المعمارية لم يستنزفه بل منح جلّ وقته لحقله الاكاديمي في الاجواء الجامعية.
أوّل ماعرّفني بالدكتور السلطاني كان مقالة قرأتها له في (آفاق عربية) أواخر عام 1980 عن (قاعة الالعاب الرياضية المغلقة في بغداد) للمعماري الاشهر (لي كوربوزيه). أعقب هذه المقالة كتابٌ صغير له ضمن سلسلة (الموسوعة الصغيرة) بعنوان (حديث في العمارة)، ثمّ تتالت قراءاتي لمعظم كتبه المنشورة في سنوات لاحقة.
كسر السلطاني بعضاً من القواعد الراسخة في المهنة المعمارية؛ فهو أرستقراطي الثقافة والانسنة وليس أرستقراطي المال والاعالي المهنية المتغطرسة. المال ليس عيباً أو مثلبة؛ لكنّ كيفية التحصّل عليه وانعكاس إمتلاكه في سلوك الانسان هو ما قد يجعله مثلبة أو نقيصة. كسر السلطاني أيضاً قاعدة أخرى مفادها أنّ المعماريين (والاطباء معهم) محافظون يمينيون يسعون لبقاء الاوضاع على ماهي عليها حباً بمصالحهم. كثيرة هي الوقائع التي أبدى فيها السلطاني (ومعه معاذ الآلوسي) إنحيازاً كاملاً للطبقات غير المقتدرة مالياً من البشر والتي يعوزها التمكين المجتمعي والقانوني.
يتميّز السلطاني بخصيصة صارت علامة شاخصة له في كلّ كتاباته. هو لايكتب بلغة المهنة المعمارية الصلبة بل بلغة المثقف الحداثي الذي يرى العمارة نسقاً ثقافياً وليس ممارسة مهنية معزولة عن سائر الفعاليات البشرية. أظنّ أن السلطاني يتصادى كثيراً في هذا الشأن مع طبيعة التركيبة اللغوية التي يكتب بها (تشارلس جينكز) والتي تذكّرنا بطلائع الحداثيين في حقل الادب والثقافة.
السلطاني أحد الفاعلين الثقافيين المؤثرين في تشكيل الفضاء العام في الثقافة العراقية منذ قرابة النصف قرن، وأظنُّ أنه لو كان رئيساً لقسم العمارة عندما بدأ قريبي دراسته فيها لما أبدى طلبة العمارة حينذاك غطرسة تجاه الآخرين ولعرفوا (تبعاً لمؤثرات القدوة والمثال الاخلاقي والسلوكي) أنّ العمارة تُعنى بالمعيش الطيب وتخاطب روح الانسان قبل أن ترى كم في جيبه من مال.