ستار كاووش
فهمتُ لِمَ حملَ الشارع اسم (شارع الفن) بعد أن رأيتُ كيف إنتصبَ في وسطهِ المتحف الذي قصدته، والذي كان عبارة عن بناية عالية رمادية اللون، إستقرت عليها الظلال المرقطة التي تركتها الأشجار العالية التي أحاطت بالمكان، فيما عَلَتْ بعض الأعلام الطويلة بلونيها الأخضر والأحمر، والتي كُتبَ عليها (متحف شارلييه).
هما في الحقيقة كانا بيتان كبيران مبنيان على الطريقة الكلاسيكية الجديدة سنة 1844، دمجهما فيما بعد بواجهة واحدة المهندس المعماري فكتور هورتا، الذي أضافَ صالات جديدة وسقوف زجاجية وجدران فاصلة مراعياً الحصول على الكثير من الضوء. لتكون النتيجة قصراً يحمل لمسات (الآرت نوفو)، والذي تحول سنة 1928 الى متحف رائع وسط مدينة بروكسل. تأملتُ البناء بلونه الحيادي، متساءلاً مع نفسي (أنتظر أن أرى الكثير من الألوان خلف هذا الهدوء الذي تُفصِحُ عنه الواجهة).
في الكابينة الزجاجية لقطع التذاكر، جلستْ امرأة سمراء ممتلئة، بدتْ كإنها تركت سريرها قبيل لحظات، تضع أحمر شفاه فاقع، وتمسك بقدح قهوتها التي ترتشفها بهدوء يقترب من الرتابة، حيث مازال المتحف فارغاً من الزائرين في هذا الصباح الباكر. لم تمض لحظات حتى مَدَّتْ لي المرأة يدها مع تذكرة الدخول بعد أن وضعت قدح القهوة أمامها. نظرتُ بفضول الى حافة القدح الأبيض التي إنطبع عليها لون أحمر الشفاه، فيما رمقتني هي من خلال الفتحة الزجاجية الصغيرة بنظرة لامبالية أعادتني الى نساء الرسام فان دونغن.
أغلب أعمال هذا المتحف أُنجِزَتْ في الفترة الواقعة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهذه السنوات أعتبرها شخصياً أكثر سنوات الفن جمالاً وتجديداً وتأثيراً على الحداثة. ومع أول خطوة خطوتها في الداخل، ظهر أمامي بورتريت رائع للفنان فان ريسنبرخ رسم فيه أحد التجار. لوحة دافئة يطغي عليها مزيج من البني والأوكر، حيث يتكيء التاجر بإحدى يديه على عصاه، فيما يضع يده الأخرى في جيبه، وقد ثبت سترته من الأعلى بزرار واحد فقط. ومن خلال نظرة الرجل الساهمة، ونظارته المتدلية بخيط رفيع، يَتبَدّى لنا الغنى والطمأنينة والثقة بالنفس. اللوحات دائماً تقول ما هو كافياً، والصبر أمامها والتقرب منها أكثر هو ما نحتاجه، وهو الذي يمنحنا خبرة جمالية، وفي مثل هذا النوع من الرسم، لا يضع الرسام لمساته اعتباطاً، بل يضع مع اللون حكايات المدينة والناس والتاريخ، وفوق كل هذا يمزج على قماشاته مزاج الشخصيات التي عاشتْ على هذه الارض وتركتْ لنا كل هذا الأرث. بمحاذاة هذا الرجل الجميل إنتصبتْ لوحة الرسام فان سترايدونك، والتي منحها عنوان (إغفاءة) والتي تظهر فيها امرأة مُتعَبة، تجلس على كرسي وتضع يدها فوق عينيها، لتستغرق بإغفاءة وسط الظهيرة بعد يوم شاق بتدبير شؤون المنزل.
المتحف مليء ليس باللوحات فقط، بل بالمنحوتات والأثاث والساعات والشمعدانات وأعمال الخشب التي بدت تعجيزية من فرط التفاصيل التي احتوتها. وكان لابد لي من التوقف طويلاً أمام بعض الأعمال الرائعة التي تركتْ أثراً في نفسي، مثل لوحة (المسير) للفنان يوجين ليرمان التي رسمها سنة 1900 وبانتْ فيها البوادر الأولى للتعبيرية، ويبدو فيها مجموعة من الأشخاص يسيرون على طريق ريفي، وقد ظهرَ عليهم الإجهاد وكإنهم ذاهبون الى طبيب القرية، يتقدم المركب أحد كبار السن، وخلفه رجل وامرأة يتأبطان مسناً آخراً، ألوان الشخصيات معتمة تشير الى الحالة التي يعيشونها، فيما كان المعادل الجمالي لهذه القتامة هي الأم الشابة التي تسير خلفهم صحبة طفليها، والتي رسمها الفنان بألوان مشرقة تتوازن مع السقوف القرميدية للبيوت. حركة الأيدي تقول الكثير هنا، والرؤوس المتدلية تقص لنا حكاية من الريف البلجيكي، فيما تميل وتتحرك بعض الشجيرات الـى الخلف عكس حركة الاشخاص، تعبيراً عن صعوبة الطريق وقسوة اللحظة. أترك هذه الدراما خلفي وأقترب من لوحة أوغست أوليف (حزيران في نيبورت) التي تشع بالضوء والبهجة، حيث تظهر مجموعة من الفتيات بثيابهن البيض، منشغلات وسط حديقة كبيرة بشرب شاي الظهيرة، يجلسن حول مائدة توزعت عليها بعض الأواني والأطباق وأقداح البورسلين الزرقاء. تتكيء إحداهن بيدها على حافة الكرسي المصنوع من الخيزران، وهي تلتفت نحو الرسام بنظرة واثقة تجعلها الشخصية الرئيسية في اللوحة، فيما قبعتها تطرزت بمجموعة من الزهور الملونة التي جعلت حركتها تتوازن مع محتويات المائدة. في صالة اخرى أخذت لوحة (كروم العنب) للرسام إيميل فابري مكانها بثقة، وهي تعيدنا الى ما قبل الروفائيلية، وتعلن عن مناخها الأسطوري حيث المرأة والرجل يستعرضان كروم العنب قبل تحويلة الى شراب منعش. لوحات كثيرة ومتنوعة، كانت تخطوا نحو تغيير الرسم والبدء بعصر الحداثة، حيث توضحت تأثيرات فنسنت فان خوخ بعد فترة قصيرة من موته، وبدت تقنياته تظهر على أعمال الكثير من معاصريه والذين جاءوا بعده بقليل مثل وليم جيلي، هنري مارتن، ياكوب سميت، إيميل تايسبرت وغيرهم الكثير.
بضع ساعات قضيتها وسط الألوان والتقنيات والشخصيات التي أعادتني الى الفترة الذهبية للرسم. وقبل خروجي بقليل، حيث الصالة الأخيرة، واجهتني لوحة (عازف التشلو) التي رسمتها الفنانة جيهان فريسون بعجائن كثيفة من الألوان. إقتربتُ منها على مهل وشعرت بأن يد العازف تتحرك وتطلق صوت الموسيقى الذي إنسجمَ مع الضوء الساقط على حافة النافذة ثم عادَ لينعكس على ملامح وجه العازف الشارد صحبة نغمه البعيد، الذي أخذ يبتعد أكثر كلما ابتعدت عن اللوحة. وحين صرت في الخارج ونظرتُ الى الناس في الشارع، بدا الجمال الذي شاهدته في المتحف قبل قليل كإنه حلماً بعيد المنال، وهذا في الحقيقة ما تفعله اللوحات الجميلة بنا، بل هذا ما يكافئنا به الفن العظيم التي يحمل قوته وعاطفته وتأثيره في كل أرض وزمان.