اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > في مزايا السرد غير الواقعي

في مزايا السرد غير الواقعي

نشر في: 24 سبتمبر, 2023: 10:57 م

د. نادية هناوي

قد لا تُفهم بعدية(السرد ما بعد الكلاسيكي) وغيرية(السرد غير الواقعي) على علاتهما كلها أو بعض منها، وقد تكون البعدية والغيرية مثاراً للغموض والتساؤل وسبباً في الاشتباك والتعقيد أكثر مما هما موجهان للمعنى ومحددان للدلالة،

إنما هي طبيعة التوصيف اللغوي في التعبير بالظرفية (بعد) عن السرد الذي اختلفت تراتبيته المعرفية كميدان علمي كان قبل عقود يختص بمسائل عُدت في وقتها جديدة وكاشفة واستقصائية واليوم يُنظر إليها تقليدية وفيها القصور والارتباك كما أن في التعبير بأداة النفي(غير) توكيداً لحال سردي إزاء حال آخر، يناظره في الانضواء في علم السرد ويخالفه بتخليه عن الواقعية وميله إلى غيرها.

وهذه المفارقة في الانضواء والاختلاف هي سمة العلوم على تفاوت ميادينها وتغاير اختصاصاتها، والسرد علم دائم التبدل مثل سائر العلوم الإنسانية الأخرى. وإذا كان هذا العلم قد خضع قبل عقود للنظر البنيوي وما بعد البنيوي، فإن راهنية هذا العلم تجعله مستمراً في البحث عن نظريات يتلافى بها ما لحقه بشكل أو بآخر من نقص مفاهيمي وقصور اصطلاحي، ويسد ثغرات أصابت بعض مساراته ويفك اشتباكات وقعت فيها أقلام النقاد المهتمين به، موجهاً عنايته إلى ما يقدمه القصاصون والروائيون في نتاجاتهم السردية من تجارب ومغامرات، يبحثون فيها ــ هم أيضا ــ عن الجديد والمألوف.

وتختص الــ (بعد) بعلم جديد للسرد، لكن الـ(غير) تختص بفرع علمي هو جزء من هذا العلم الجديد القديم ألا وهو(السرد غير الواقعي) الذي رافق الإنسان منذ أن وعى وجوده على الأرض وخبر آفاقه كحاجة لا بد له من تلبيتها وستبقى معه لصيقة به إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وما دام العلم بنوعيه الرئيس والفرعي جديداً فلا فرق بين الجملتين الظرفية والمنفية لأنهما تصبان في باب السرد.

وإذا كانت الأدوار التي يؤديها السارد الواقعي معروفة ومفروغا منها نقديا بمسميات خاصة وأنساق عمل واضحة وصور مرسومة ومحددة، فإنها في السرد غير الواقعي تحتاج الى دليل يوضح طبيعة تلك الادوار والمسميات والصور وماهية الفعل السردي نفسه، وما تؤديه الشخصية من عمل، وكيف يمارس السارد وظيفته بمنطقية مع بطل غير واقعي لا بمعنى انه خيالي أو متخيل؛ فهذا أمر وارد وطبيعي في كل السرود وإنما بمعنى أنه عقليا غير قادر على أن يكون بطلا لكونه لا يحاكي الواقع وإنما يحاكي واقعا لا وجود حقيقيا له.

وقد يقال إن المتخيل السردي ناجم عن محاكاة ما هو واقعي، بيد أن التخييل يظل عملية ذهنية تصنع من المألوف ما هو غير مألوف وبالعكس. والتخييل ولا يكون ما لم يوجه العقل توجيهاً ذهنياً لا ينحصر فيه بخط منطقي عقلاني، بحثا عما هو جديد ومبتكر وإبداعي. وهو أمر لا يتاح سوى لمن امتلك موهبة تؤهله وتمكنه من التفكير الإبداعي في انتاج سرد واقعي أو غير واقعي واللذين هما تخييليان. علما أنّ التخييل ليس هو اللامعقول لأن التخييل مشروط أداؤه بالمنطق وقانون السببية، حيث السبب يؤدي إلى النتيجة بينما اللامعقول غير مشروط بالمنطق ولا مضبوط ببروتوكول السببية. لتظل سمته الفوضى والعشوائية العبثية ما لم يخضع اللامعقول للمنطق السردي فيصير معقولا. وليس العقل هو التفكير بل التفكير عملية من مجموعة كبيرة من العمليات الذهنية التي يؤديها العقل، ومن ثم لا يعني التخييل إلغاء العقل وإنما يعني توجيه التفكير توجيهاً محدداً.

أمّا تلقي التخييل والتفاعل معه قرائياً فيعني أيضا توجيه التفكير توجيها منطقيا يجعل القارئ ينظر إلى ما يقصه السارد على أنه كلام متخيل عن شخصية تحاكي نموذجا لها، عادة ما يكون موجوداً في الواقع العملي بينما يكون تلقي التخييل الذي لا واقع فعليا له يحاكيه السارد منطلقا من مشاركة القارئ هذا السارد التفكير في أحداث وشخصيات مستقدمة من منطقة ما قبل واقعية أو ما بعد واقعية مدركا أي ـــ القارئ ـــ عمل السارد فيقتنع عندئذ بما يقرأ. ومن دون هذا الفهم والاقتناع، فإن القارئ سيكِّذب السارد ولن يقتنع بسرده غير الواقعي لخلوه حدسا وحسا وفكرا من أي أساس مادي على أرض الواقع الفعلي.

وهذا يعني أن مكمن الاختلاف بين السرد الواقعي وغير الواقعي فكري وليس اختلافا وظيفيا. فالوظيفة التي يؤديها السارد هي واحدة أيا كان السرد وبأي صورة كانت المسرودات، كأن يكون مستقلا عن الواقع الفعلي الذي يحكي عنه وجالسا في منطقة عالية ناظرا بعين الطائر أو يكون محايدا في التعامل مع الواقع وحذرا من الاقتراب من المسرودات ــــ معقولة كانت أو غير معقولة ـــ وقد يكون مشاركا أو مقتحما عالم السرد متحالفا معها ضد القارئ أو بالعكس لا يبرر ولا يصطف معها فلا يظهر اهتماما كبيرا بالتعبير عن موقفه في ما تبدو عليه أفعال مسروداته وأقوالها بقدر اهتمامه بالقارئ وأهمية إشراكه في السرد.

إن موضوعية السارد غير الواقعي ـ عليما كان أم كلي العلم ـ تفترض منه الحياد والبقاء بعيدا في منطقة النص ضاربا سياجا بينه وبين المسرودات وهو يصفها ويعبر عن مواقفها ويصور أفعالها دراميا وربما يغوص في بواطنها وينقل اعتمالات ذاتها النفسية غير متعد وظيفته في الاستبطان والتصوير والتداعي، متعاملا مع الزمان استباقا أو استرجاعا والمكان وصفا وتعددا بموضوعية أيضا.

وإذا صادف أن أضاف شيئا أو تكهن بأمر أو باغت المسرودات أو ساعدها بفعل فذلك يبقى محددا بالموضوعية التي يراهن على أدائها السارد بكل احتراف وحياد سرديين، متمما ما بناه مع المسرود له ومن بعده القارئين الضمني والفعلي.

ولا يعني تغير وظيفة السارد غير الواقعي من الموضوعية الى الذاتية أن هناك تبدلا في وجهة النظر، فهي تظل أحادية ما دام السارد مركزيا، مما نجده واضحا وبكثرة في السرد الروائي أكثر منه في السرد القصصي القصير. لأن المساحة التي يشتغل عليها تحبيك السرد تسمح بتعدد الساردين الذين مع تعددهم تظل وجهة النظر أحادية، فقد يكون السرد بضمير الغائب أي الشخص الثالث ومع ذلك لا يغير غيابيته استعمال السارد طريقة(أنا الراوي الغائب) التي على وفقها تكون الاسترجاعات والاستباقات والمونولوجات داخل الرواية كلها غير مباشرة.

والسارد هو الذي يجعل البطل غير واقعي يسرد كما في قصص الخيال العلمي وقصص الطفولة والروايات التي فيها استجلاب لما هو مستحيل حدثا وشخصيات وأزمنة وأمكنة يؤتى بها من عوالم السحر والشعوذة والهذيان والجنون. وقد تناول الباحث الألماني جان ألبر ـ وهو واحد من أربعة باحثين تبنوا مفهوم السرد غير الطبيعي ـــــ روايات وصفها بالخيالية مع أنها في الحقيقة من الواقعية الغرائبية واللامعقولة. ومنها قصص فرانز كافكا. وما نراه سبباً في جعلها(خيالية) هو البروتوكول الذي اتبعه السارد الموضوعي وجعل مسروداته تبدو على لا واقعيتها واقعية جدا. وفي ممارسة السارد لدور الحكاء دليل على أن السرد غير الواقعي هو أصل السرد وقاعدته التي منها انطلق السرد الواقعي.

واذا كان أدبنا العربي القديم قد عرف السرد غير الواقعي في الحكايات الخرافية والقصص الشعبية وقصص الحيوان، فإن السرد العربي الحديث ظل مستمرا عليه في عصر النهضة؛ فإلى جانب القصص /المقامات كانت هناك قصص مكتوبة بتأثير ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة أولا ثم بتأثير القصة الغربية آخرا كما كتبت مسرحيات على طريقة السرد غير الواقعي. ويغلب السرد الواقعي على قصص وروايات الكتاب العرب المعاصرين، باستثناء تجارب محدودة مارست كتابة السرد غير الواقعي في شكل قصص خيال علمي وقصص أطفال وقصص حيوان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram