إحسان شمران الياسريفي كل آب، نستذكر (أبو كَاطع) المناضل العراقي (شمران الياسري)، أسطورة العمود الصحفي البارز الذي أسسه بصراحته النبيلة، وأحد رواد الرواية الحديثة.وعند كل استذكار، يتبين كم نحن بحاجة إلى صراحته لنواجه بها أنفسنا ومن نحبهم من حولنا،
ولنواجه المسؤولين عن حياتنا وأمننا ومستقبلنا.. ونواجه بعض الذين سخر (أبوكَاطع) منهم وكشف زيفهم وسطحية عقولهم..لقد عاش المرحوم (شمران الياسري) قليلاً، ولم يكتب إلا القليل.. فلم يُتح لطاقته الهائلة في الكتابة، وجرأته البالغة، أن تنتج الشيء الكثير.فـ(شمران الياسري)، برغم كل الصعاب التي لازمت فترة إنتاجه القصيرة، حّلق في سماء الوطن، وساد على معاصريه بقلم فاتن، أبهر جمهوره من عامة الناس ومن خاصتهم، وأقلق سلطة الحكم، فحبسته تارة، وطاردته تارة أخرى، ودفعته في النهاية للمنافي، إلا إن أهم مفصل من هذا الإرث، هو ما يمكن تسميته (منهج شمران الياسري) في كتابة العمود الصحفي، وهو توأم لمنهجه في كتابة الرواية.. لأن الرافد كان واحدا.فبين مشاريع روايات، وقواميس، لم تر منها النور بعد رحيله إلا رواية (قضية حمزة الخلف)، الرواية التي أكملت الأحداث التي انقطعت من رباعيته الخالدة.وكان إنتاجه في العمود الصحفي متفرداً لم يفلح غيره بتقليده أو محاكاته.لقد عاش (شمران الياسري) عفيف النفس، نزيه الضمير، متمّردا على البيروقراطية التي واجهها في المؤسسات التي عمل فيها، فوزّع تقواه ونجابته على من حوله، فلم يكن سياسيا نهّازاً للفرص، بل كان فلاحاً شديد القرب من الأرض، وبسيطا كما حبة القمح، ونقيا مثل ماء دجلة.. وبهذه المزايا، كان يفهم رفاق دربه، ويعرف من يستحق منهم الرفقة، ومن الذي (لا يساوي فلسا!).كان (أبو كَاطع) ملفتا للنظر ومثيرا للاهتمام أينما حل.. فكان يستحوذ على اهتمام أي مجلس ويشغل الناس به.. وكان صادقا، غني النفس والمحضر.. ولم يتعال على الناس مهما كانت منزلتهم أو ثقافتهم أو ثرواتهم!.. فكان ابنا للمدينة، متحضراً، متقدما على جيله في استيعاب معطيات الحضارة والتقدم.. فيما كان حضوره إلى الريف، عند أهله، سببا لتوافد العشرات من الأقارب والمعارف من القرى المحيطة.. وكان بينهم كأنه أبسطهم وأكثرهم قربا من بيئتهم.. وحتى في ظروف العمل السري، كان بعض الثـُقات يأخذون علما بوجوده، فيتوافدون إلى الدار بعد أن يمضي من الليل أكثره، فيجلسون معه حتى ينبلج الفجر.وبرغم ما يُشاع عن أهل عقيدته!، كان (شمران الياسري) من أكثر الذين يحترمون عقائد الناس، ويرفعون من شأن رموزهم، ويراعون طقوسهم ومعتقداتهم، فكان يتحدث بمهابة وإجلال عن نبي الله محمد (ص)، وعن نبي الله عيسى (ع)، وبقية الأنبياء (ع).. كما كان يتحدث بذات المهابة والتقديس عن رموزنا الكبيرة، الإمام علي (ع) والخليفة عمر (رض)، وعن الحسين (ع)، ويستمع باهتمام وخشوع إلى قصة استشهاده الخالدة.. بل إن رواياته تضمنت إشارات عديدة إلى تأثير الدين ورموزه في حياة الناس، مع انه أدان في غير موضع استخدام الدين لخداع الناس والكسب بالدجل عليهم، وفي مطلع شبابه صلى وصام.إن فن تعرية الزيف، بعد تسمية ممارسيه، وكشف السواتر والأغطية التي يتلفعون بها، هو الذي مكنّ ما يكتبه (أبو كَاطع) من المرور إلى الناس، والاعتراف له بالأصالة في احترام عقولهم.ومهما يكن من أمر النظام الذي كتب في ظله الراحل، وكتب عنه، فأنه (النظام) تحّمل هذه الصراحة الشديدة، والسخرية من الخطأ والتضليل والزيف.. ولم يكن هذا هبة من النظام أو تساهلاً منه، بل كان اعترافاً ضمنياً بمصداق ما كان يكتبه، واقترابه من الناس بأقصى درجة يستطيع فيها كاتب أن يكون عميقاً.. فضلاً عن ذلك، وهذهِ ربما مفارقة معقولة في ذلك الزمن، إن السلطة كانت تثق بما يكتبه (أبو كَاطع) في زمن كانت الصحافة (باستثناء صحافة الحزب) تداهن السلطة وتلمعّ كل ما له صلة بها.. وربما كان مصدر هذهِ الثقة، إن السلطة كانت تبحث عن الصوت الآخر لتسمع منه، خصوصاً إن تلك الكتابات كانت زمن الجبهة، وقاعدة الحزب الجماهيرية كانت تزاحم قاعدة حزب السلطة.. ومع ذلك، وحسب علمي، لم يبرز في صحافة تلك الفترة صوت أشجع من صوت (أبو كَاطع) ولا أمضى منه تأثيراً بين الناس ولدى السلطة.كان المقال لديه، أما مباشراً في طرحه للقضية وأبعادها وحلولها، أو على صيغة حكاية مع (خلف الدواح)، الذي كان يظهر أكثر حدة من صاحبه في تناول شؤون الناس.. حتى إن الكاتب كان يبدو متساهلاً، وأحيانا مدافعاً عن السلطة ومؤسساتها بقصد رفع حدة الخطاب والنقد إلى أقصى ما يسمح به المقام.ولم تكن نقاشات الدواح و(أبو كَاطع) مجرد أصوات تُعرّض بـ (الحكومة) لإسقاطها في أعين الناس، كما نشاهد اليوم في عالم الصحافة والنقد المبتذل، بل ظل (أبو كَاطع) إلى آخر اللحظات يكتب بقلم المتطلع للأمام، والمدافع عن أي شيء يمكن الدفاع عنه، وهذه ميزة طبعت سلوك الحزب أيضا في تعامله مع السلطة.. فلم تكن المؤامرة موجودة في ذهنه، ولم تكن لديه الخطط لإسقاط السلطة، لأنه كان شريكاً فيها. وهذه بالطبع ليست نيابة عن الحزب في تقديم رأيه، ولكنني كنت قريباً جداً من الراحل، بل كنتُ استطيع سماع وجيب قلبه في بعض الظروف، لذا لم أسمع
شمران الياسري.. نهر العراق الرابع.. وضمير الرافدين
نشر في: 20 أغسطس, 2010: 05:47 م