اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > في احتجاجات تشرين: الشعب كصانع للتاريخ وأحداثه

في احتجاجات تشرين: الشعب كصانع للتاريخ وأحداثه

نشر في: 1 أكتوبر, 2023: 10:01 م

د. حيدر نزار السيّد سلمان

ضمن سياقات فلسفة التاريخ لتفسير أحداثه وتحليلها والبحث عن الفاعلين الرئيسيين وأسباب الحدوث قدّم مفكرون ومؤرخون نظريات متنوعة مثّلوا فيها اتجاهاتهم الإيديولوجية وجوهر أفكارهم.

وكان المؤرخ الكبير «أرنولد توينبي» (1889-1975) قدّم نظريته الرصينة عن دَور البطل بصناعة التاريخ وصياغة أحداثه؛ وطبقاً لهذه النظرية فقد أدّى المحتجون العراقيون في تشرين الأول عام ٢٠١٩ وما بعدها دَور البطل الصانع للأحداث. ولعلّ هذه الاحتجاجات غير المسبوقة بتاريخ العراق هي أنموذج للتاريخ الشعبي العراقي، إذ خاض العراقيون نضالاً قاسياً تراوح بين السلمية والدموية لخلق بداية لتاريخ بلدهم السياسي والاجتماعي والثقافي.

كان هذا التسطير بداية لتاريخ عراقي جديد تمَثَّلَ البطلُ فيه في الشعب وفي قواه الفاعلة، متجاوزاً التقليديات المعروفة في هذا الجانب بأداء الحاكم أو الطبقات الاجتماعية المتنفذة في صناعة الأحداث وتغيير مسارات التاريخ في عملية إثبات واقعية لقدرات الشعب في التعبير عن إرادته وعدم الإذعان لإرادة الهيمنة المتعددة الفواعل والمتنوعة الأساليب. ويمكن القول بأنَّ اللحظات الاحتجاجية الحاسمة أثبتت إمكانية أن يجسّد الشعب كونه مصدراً للسلطات واقعاً، وليس بالصياغات الدستورية الإنشائية، كما أن القوى الشعبية التي خاضت صراع الإرادات مع السلطة الأوليغارشية المتمترسة بالاحتيال والخداع والمتمرسة على إخضاع الإرادة الشعبية وقمعها، برهنت على ولادة جيل جديد مختلف تماماً عن الأجيال السابقة المترددة والخائفة. وهذا الجيل يحوز على ثقافات جديدة وينهل معارفه من مصادر متنوعة ليس بالضرورة أن تكون محلية أو فئوية أو غارقة بالماضوية، رغم ما ظهر من شوائب تترافق تاريخياً مع كل الحركات الثورية العالمية. بيد أنّ الثقافةَ المستندة إلى الوطنية العراقية والنابذة لاحتكار الأوليغارشية الحاكمة والمهيمنة على آليات البناء والتربية (البيداغوجيا) قد أربكت قوى السلطة ومجالها الثقافي القائم على ترسيخ الهويات الفرعية وتقديمها كأساس للنظام السياسي الحاكم، وراحت القوى السلطوية السياسية والدينية وأذرعها الثقافية تَعدّ ما حصل تمرداً وخروجاً عن الطاعة النسقية وعن مبدأ الرعوية والدمج الجماعاتي من خلال تكثيف الخطاب المذهبي والقومي. وما حصل أنَّ هذا الجيل تجاوز بمعارفه المتنوعة الحديثة والعصرية أساليب الإخضاع الثقافي الفكري وتكوين الهويات الفرعية الصلبة التي تداعت بالتفتيت والتساؤل والبديل الوطني. ولعلّ هذا الجانب كان الأشد تمثلاً والأمضى تأثيراً في متبنيات الأوليغارشية وحلفائها. لذلك استماتوا بالاغتيالات والتصفيات الرمزية والجسدية، وشنّت وسائلهم الدعائية حملات قاسية من التسفيه والتشويه؛ وبالمقابل تفانى المحتجّون بالترويج لروحهم الوطنية ومقاومة محاولات الإخضاع والهيمنة، مقدّمين مزيداً من التمسّك بهويتهم العراقية، رافضين بشدّة ربطهم بإيديولوجيات السلطة وارتباطاتها المتجاوزة للحدود الوطنية، وتشبثوا بالهوى العراقي والمزاج الوطني.

لقد أرسى هؤلاء الموسومين بالجيل الجديد دعائمَ لتاريخٍ شعبي من جانب، وأساساً لِروحٍ وطنية تتصاعد باستمرار. وقد تجسّد ذلك في مشاعر وطنية مثيرة للإعجاب الشعبي الداخلي ولافتة لأنظار العالَم، وهو ما نراه في المناسبات والأحداث الوطنية رغم كلّ محاولات طمس هذه الأحداث. ومن ذلك على سبيل المثال التشجيع الحافل للرياضة العراقية وإبداء انحياز وتعصّب لِكلّ ما هو وطني.

إذا كانت الأوليغارشية وحلفائها الماضويون قد تمكّنوا من الالتفاف على الإرادة الشعبية وإيقافها بفضل عوامل القهر والبطش والحراب البوليسية والدعايات المضللة، فإنّ ذلك لا يشكّل نهايةً لِفاعلية الشعب بصنع التاريخ، بل إنَّ نار الاحتجاج باقية مستترة تحت الرماد إلى حين، ما دامت هذه السلطة متمسكة بنهجها العتيق وخطابها المقزز ودوامها على الاستئثار بالثروة والنفوذ، فضلاً عن علاقاتها التبعية الخارجية التي أخذت تثير حساسيةً وغضباً شعبياً، كونها ماسة بشكل عنيف بالكرامة الوطنية، الأمر الذي يرفضه الوطنيون.

بكل الأحوال هذه هي المرة الأولى منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة يتولّى الشعبُ فيها صناعة تاريخ وحدث مفصليّ كثير العِبر والدروس، ومليء بالوقائع الفريدة، بالإضافة إلى تطور مدهش لِلشعور بالمسؤولية التاريخية. وبالفعل فإنَّ الجدلَ ما زال مستعراً حول القيم الثورية للاحتجاج وما أفرزه الحراك الشعبي. كما انتسب جيل كبير من الشباب إلى ما يُعرف بالتشرينيين كدالة على التميز الجيلي والاتحاد الشعبي العامل. والغريب أن الأوليغارشية الحاكمة رغم محاولاتها للانقضاض على هذا التيار وداعمه الشعبي فإنّها تحاول بأساليب المخاتلة التقرب منه ومراوغته سياسياً.

لقد رَصَّنَ هذا التاريخ الشّعبي المخضَّب بدماء المئات من الشبّان لحمةَ الوطنية التاريخية، وصاغ خطاباً عراقياً جديداً مناهضاً للسلطات الأبوية ومعارف المدرسة القديمة الإخضاعية، وراح يستقي معارفَه التي تشكّل رؤيتَه لِلحياة ولِبلده ولمستقبله ولِعلاقة بلاده بالعالَم، وإلى التداخل بين الهويات بعقليةٍ جديدة من مصادر حديثة. ومن الضروري الإشارة إلى أنَّ هذا لا يقتصر على المشاركين بالفعل الاحتجاجي، بل بالملايين من الخارجين عن الهيمنة السلطوية بكلّ مسمياتها وأصنافها. وطبقاً لهذا فإنَّ هذا التاريخ الشعبي الذي يتمحور حول الشعب كقائد، يمثّل مساراً مفصلياً لن يقف عند نقطة إلا وانطلق نحو الأَمام، وهذا التاريخ يستبطن في جوهره تغييراً مستقبلياً يعيد بناء العلاقة بين السلطات المتنوعة والشعب على أساس مصلحته وبلاده.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram