اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَات : راسِمُ بَدْران

مُخْتَارَات : راسِمُ بَدْران

نشر في: 1 أكتوبر, 2023: 10:05 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

عندما أُعلن في نهاية أجتماع هيئة تحكيم مسابقة "مسجد الدولة الكبير" ببغداد في 3 شباط 1983 (كانت الهيئة مؤلفة من رفعة الجادرجي <العراق>،

ود. كوبان دوكان <تركيا>، والبروفسور ستيفانو بيانكا <سويسره>)، عن فوز مشروع المعمار "راسِمُ بَدْران" عمان/ الاردن وحصوله على الجائزة الاولى في تلك المسابقة الدولية التى دُعي لها في 21 تموز 1982 ما مجموعه 22 مكتبا استشاريا محلياً وعالمياً لتقديم مقترحاتهم في تصميم "مسجد الدولة الكبير" في بغداد (لاحقاً، في الاول من تشرين الاول 1982 تم اصطفاء سبعة مكاتب، بضمنهم مكتب "راسِم بَدْران"، للاستمرار في تقديم تصاميمهم لتلك المسابقة). كان ذلك الاعلان من هيئة التحكيم اياها بمثابة اعتراف دولي عن حدث "بزوغ" نجم ساطع جديد في "سماء" العمارة العربية. لم تكن نتيجة ذلك الاعلان امراً مفاجئاً فقط للمعمار الشاب (ولد راسِمُ عام 1944) والمتخرج قبل سنوات قليلة من "جامعة دار مشتات" الالمانية (1970)؛ وانما كانت مفاجأة مدوية على النطاق الدولي. فالمكاتب الستة الى شاركت مع "راسِمُ بَدْران" في تقديمها كانت مكاتب ذو شهرة عالمية ومكانتها راسخة عميقا (..وقديماً!) في المشهد المعماري. أذ كان من بين "الستة": مكتب "فنتوري رواخ وسكوت براون (امريكا)، وقحطان المدفعي (العراق- بريطانيا)، و مينورو تكاياما (اليابان)، ومكتب ريكاردو بوفيل (اسبانيا)، ومكتب معاذ الالوسي "تيست" (العراق) فضلا على مكتب "محمد مكيه ومشاركوه "(المملكة المتحدة). ومنذ تلك اللحظة "التاريخية"، ومنذ ذلك الاعلان المدهش.. والسعيد، ما انفك اسم "راسِم بَدْران" يتوالى حضوره كاحد الاسماء المهمة في المشهد المعماري الاقليمي وحتى الدولي، تصاميمة العديدة ذات النمط المتنوع والمقياس المختلف تحظى باهتمام كبير من قبل الاوساط المهنية والاكاديمية. لقد ادت "بغداد" دورها، بنجاح منقطع النظير، في تقديم هذا المعمار المتميز ومقاربته المعمارية الفريدة، لأول مرة، الى جمهور مهني واسع، متلهف لاستنطاق ارثه المعماري الحصيف والكشف عن جمالياته الخبيئة!

لا تبتغي هذة المقالة اعطاء تقييمات نقدية شاملة لعمارة "راسِم بَدْران" المميزة؛ كما انها لا تسعى الى تجاوز غاياتها ومقاصدها المرسومة لها بكونها مقالة معنية بتقديم معمار الى القراء من خلال احد تصاميمه، مشفوعة بطرح ارائه واقوله بصورة مختصرة بحيث تظهر فيها (في المقالة)، ما يشير الى "الاعمال والاقوال" كما حددناها سابقا في اول حلقة من هذة الزاوية: "مختارات". لكننا، مع هذا، نتوق احياناً الى تذكير قارئتنا وقارئنا، ولو بكلمات قليلة ومقتضبة، عن خصوصية مقاربة المعمار المختار لحلقة هذة الزاوية، بباعث ادراك افضل لقيمة تلك العمارة وفهم اعمق لتلك الاقوال المنسوبة للمعمار.

تكمن اهمية عمارة "راسِم بَدْران"، كما اراها، في انفتاحه وتطلعه نحو شتى النجاحات المعمارية الحداثية ومحاولة مزجها وتوظيفها، باجتهاد حاذق، مع ارث منجز العمارة الاسلامية، لجهة الذهاب بجرأة نادرة نحو بلاغة تصميمية حافلة بالابعاد الدلالية؛ بلاغة معتمدة اساساً على حنكة "تسبيك" ذلك التمازج، والتقصي عن مفردات تصميمية خاصة، تنطوي على احساس جمالي لافت! كأن "راسِمَ" في مثل هذا الطرح، بمعنى من المعاني، يلامس عن قرب أُطْروحَة المعمار العراقي "محمد مكية" (1914 – 2015)، في تبنيه المورث المعماري الاسلامي واعتباره مرجعا لمسار تصميمي ذا تأثير حضوري بالغ مشرع ومفتوح على الاضافات. كأنه يخطو الخطوة "التالية" التى توقف عندها المعمار المصري "حسن فتحي" (1900 -1989) وهو هناك "غاطساً" في تلك الحالة الماضوية (..هل اقول الاستشراقية؟!)، المتسمة بايغال مفرط في استخدام تشكيلات فنية مستـلة من خـزين الممارسات التراثية، والمغالاة في الحفاظ على "فورماتها" الاصلية والامعان في تجريدها من حيوية الاستمرار والبقاء والدوام. فما عمله "بَدْران"، وما ارساه في المشهد والخطاب عبر تلك "الطفرة" الخلاّقة عن المقاربة "الفَتَحيَّة" (نسبة الى حسن فتحي)، هو تكثيف إجراءات التمازج ما بين المستوى العالي للحدث المعماري المعاصر مع القدرة المجتهدة في استحضار روح العناصر التراثية وجوهرها. بكلمات آخرى، يكتسب الارث المعماري المحلي في عمارة "راسِم بَدْران" بعداً تأويلاً نفعياً قادراً على حلّ موضوعة "الانتماء المكاني" Genius Loci وإشكاليات "تهجينه" مع المتطلب الحداثي في نسيج مبهر من الحلول التكوينية – الفضائية المعبرة ذات التشكيلات البهـيّة والحميمية، التى أغنت نتاج العمارة الاقليمية مثلما أثرت ذخيرة العمارة العالمية.

ولد المعمار الفلسطيني- الاردني "راسِمُ جَمالٌ بَدْران" في مدينة "رام الله" بفلسطين سنة 1945، وحصل على تعليمه المعماري من "جامعة دارمشتات التقنية" Technology Darmstadt في 1969 - 1970 بالمانيا الغربية. وبعد تخرجه مباشرة عمل "راسِمُ بَدْران" في مكاتب استشارية المانية، احداها كانت معنية في <تصيم ملعب ميونيخ الاولمبي (1969 – 1972)، والآخر اعداد تصميم لمسابقة معمارية (1972). عند رجوعه الى الاردن سنة 1973، عمل في وزارة الاوقاف والشؤون الدينية ما بين (1973 -1982). صمم عدة فيلات سكنية في الاردن اثناء عمله الوظيفي، واشترك مع اخرين في تأسيس شركة بأسم "شبيلات، بدران، كيلاني" (1980) كما اسس مكتب استشاري باسم "دار العمران> (1980). صمم ونفذ مشاريع ضخمة مثل "مسجد الرياض الكبير وقصر الحكم (1985 - 1992) بالرياض السعودية، و"المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية" (1984) في عمان الاردن. كما صمم مسجد ابو عبيدة بن الجراح" (1997 -2004)، في عمان/ الاردن، وكذلك "مركز الملك عبد العزيز التاريخي" (1994) في الرياض، وصمم "الجامعة الاسلامية الدولية" (1993) في ماليزيا، والمتحف الاثاري" (2016)، دبي/ الامارات، وسفارة دولة قطر (2007) في عمان الاردن، والمكتبة المركزية في جامعة دمشق (2007)، في دمشق/ سوريا، وصمم "التطوير الحضري لمثلث ماسبيرو " (2015)، في القاهرة / مصر. كما شارك في الكثير من المسابقات المهنية المحلية والدولية، وغالبا ما نال فيها المراتب الاولى. يمكن القول بان تصاميم المعمار"راسِمُ بَدْران" العديدة (المنفذة وغير المنفذة)، تكاد تغطي جميع البلدان العربية، وبهذا يكون "راسِمُ" من أكثر المعماريين حضورا في مشهد البيئة المبنية العربية. فمشاريعه يمكن ان نراها في فلسطين والاردن والعراق والسعودية وبلدان الخليج العربي مثلما نجدها في مصر وفي سوريا ولبنان وفي المغرب وغير ذلك من البلدان العربية الآخرى.

حصل على جائزة الاغا خان للعمارة عام 1995، كما نال جائزة المعمار العربي عام 2001، ومنح "وسام الحسين" في 2007، لجهوده في تعزيز العمارة الاسلامية الحديثة. وحاز على "جائزة تميز للانجاز مدى الحياة" في 2019.

في معظم تصريحات وكتابات المعمار "راسِمُ بَدْران" تحضر تلك الاشكالية التنظيرية، التى تحدثنا عنها قبل قليل، وهي اشكالية معنية في اعطاء مفهوم تأويلي مبدع للقيم التراثية، وعدم التعاطي مع الارث المعماري الذي انتجته العمارة الاسلامية بكونه هيئة او "فورم" ذات معنى واحد لا يقيل التفسير او التأويل. انه يسعى الى ترسيخ مفهومه الخاص و"قراءته" الاخرى لتلك المعضلة المهنية التى جابهت العديد من المعماريين وطبعت منجزهم التصميمي بطابع خاص. ادناه بعض تلك "الاقوال" التى نشرها "راسِمُ بَدْران" في العديد من وسائط النشر المهنية.

ففي كتاب "المبادئ التصميمية النظرية في عمارة المجتمعات الاسلامية" الذي نشرته منظمة "الاغا خان" (1988) يكتب "راسِمُ بَدْران" مقالا بعنوان "المرجعيات التاريخية والتصميم المعاصر" Historical References and Contemporary Design يتناول فيه رؤاه التصميمية عن مشروعين محببين الى قلب المعمار وهما "مسجد الدولة الكبير" في بغداد/ العراق (1982) <لم ينفذ>، والمشروع الآخر " مسجد الرياض الكبير" في الرياض/ السعودية (نفذ في 1992). الكتاب نشر بالانكليزية (والترجمة لي):

".. وفي الخارج ايضاً، إِهتَدَينا الى تقنيات محددة لتخفيف وطأة الابعاد الضخمة للمسجد (مسجد الدولة الكبير في بغداد، خ. س.) عن طريق تجزئته الى وحدات معيارية صغيرة نسبياً. وقد استخدمنا فيما بينها نماذج الاقواس العباسية المشقوقة والابراج المماثلة في سامراء، كما وظفنا المداخل الجانبية لتفتيت هيئة سطوح الجدار الهائلة وتعزيز قيمة المبنى بكونه مجمعاً حضرياً. ومن خلال سعينا لاستحضار انطباع "الحدث الحضري" للمسجد، فاننا اعتقدنا باننا حقننا متطلبات برنامج المسابقة فيما يخص اكساب المبنى نوعا من "الصرحية" Monumental.

"وعلى الرغم من ان اشكال العناصر التقليدية قد استخدمت في كثير من الاحيان، فان تحديثها لجهة تلبية المتطلبات العصرية، كان امراً مواتيا مثلما كان التوق حاضرا لايصال معانِ جديدة لها. لقد كان وجود القبة بمثابة حوار ما بين المعمار والمعاني الوظيفية والتاريخية والرمزية للاشكال. كما ان استخدمنا "المقرنص" ولو بهيئته التقليدية ذات المهام الوظيفية والانشائية، ألا اننا ابتغينا تحديثه بتوظيفنا نظم التقنيات الحديثة لدعم القبة الضخمة. اما شكل المئذنة فقد كانت محاولة منا لاستحضار مئذنة سامراء. في حين ان شكل الاقواس كانت مستمدة من الطراز العباسي، ولكن تم دمجها، مرة أخرى، ضمن اساليب الانظمة الانشائية الحداثية. ورغبنا ان تكون هيئات الاعمدة الاريعة المحيطة بالمساند الضخمة، تؤدي وظائف التهوية والاضاءة، واستوحينا ذلك من مسجد أبن طولون، كما ان شكل بوابة حصن الاخيضر الهمنا الى تصميم بوابة المسجد. واخيرا فان مادة الطابوق "الآجر المحروق" وهي مادة محلية شائعة بالعراق، تم استخدامها على نطاق واسع للاعمال التزينية والاكساء وحتى الانشاء. وبما انها عدت من الخصائص الشكلية المحلية لجهة طبيعتها، فانها اعتبرت عنصراً مهما من عناصر الاستمرارية بين العمارة الحديثة والتقاليد البنائية الاقليمية. " (المصدر السابق، ص. 153).

وفي حوار مطول اجرته مجلة "معمار" Mimar في عددها المرقم 25 (سبتمبر 1987)، يجيب "راسِمُ بَدْران" عن بعض الاسئلة المطروحة. وهو، هنا، مرة اخرى يتناول اشكالية المورث المعماري والحداثة في تطبيقات تصاميمه ذات تنويع وظيفي متباين التى اشتغل عليها في امكنة مختلفة.

- ".. عندما شاركنا في تصميم "مسجد علي بن ابي طالب" في قطر، كانت مهمتنا الاولى تعريف وتحديد العوامل الثقافية، وهي معايير يتم بموجبها تأسيس الاشكال من الداخل وليس استيرادها من الخارج (مما يحرم المرء الاستقلالية والثقة بالنفس). وكانت المتطلبات المشروعة والمحددات المناخية والجغرافية، اضافة الى الموروث المعماري المحلي من القضايا الجوهرية بالنسبة الينا. لقد تم اعداد برنامج المسجد من قبل استشاريين اجانب، ووجدنا انه بحاجة الى اعادة هيكلة لمرعاة الجوانب الملائمة لاسلوب الحياة في قطر مع مرعاة الجوانب النفسية ومتطلبات المكان.

وكانت دراستنا تسعى وراء احترام ثقافة المجتمع الذي منح خصوصية للمكان وللحي المتواجد فيه، رغم الاغتراب السائد في مدننا والذي يجعل العربي غريبا في وطنه. وربما كانت صحوة جيل كامل من المثقفين في مجتمعاتنا التى مهدت الطريق لتقبل حلول مثل حلولنا لمشاريع بغداد وعمان وقطر. وكانت النتيجة المباشرة لهذا النوع من الحوار هو التكليف الذي تلقيناه لمقترح يتضمن إعادة تطوير مدينة الرياض بالسعودية، متضمناً تصميم "المسجد الكبير" ومنطقة "قصر الحكم" في وسط مدينة الرياض... وفي تلك المدينة كان البرنامج يجمع موقع المسجد و "قصر الحكم" مع المركز الثقافي. وكانت محاولة منا لاعادة مجد تلك المدينة عبر بيئة عمرانية متجانسة، تلبي احتياجات المسلم النفسية والفكرية والوظيفية. وكان ذلك بالضد وبشكل مباشر، مع ما كان يحدث في مدن عربية عديدة اخرى، والتى اعتمدت على تصورات نهج التخطيط العالمي الذي ينظر الى المدينة نظرة مادية بحتة، تغفل في الكثير من الاحيان، اية اعتبارات روحية وثقافية".

- "... لقد كنت مقتنعا اكثر فاكثر باهمية "رب العمل" باعتباره صاحب قرار في ترسيخ القيم والمفاهيم الثقافية في اي مجتمع ما. وكانت تلك القناعة تسوغ لي معرفة قيمة تلك الاهمية وأدراك الدور المناط بها، بحيث انني عندما كنت عضواً في لجنة تحكيم جوائز "منظمة المدن العربية"، كنت مصراً على الاشادة ومكافأة اصحاب القرار المسؤولين عن فكرة تنظيم مسابقة مبنى وزارة الخارجية العمانية في مسقط بدلا من مكافئة المعمار الانكليزي لوحده الذي فاز بالتصميم. وكان ذلك المقترح بمثابة إيماءة، لتشجيع الادارات الاخرى في العالم العربي للنظر بجدية ومسؤولية تجاه تاريخها" (من نصوص الحوار المنشور في مجلة Mimar، ص 50 - 70).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram