اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > سينما > يرقة كسرواني تدوّن سيرة القهر الأنثوي واستغلال النساء

يرقة كسرواني تدوّن سيرة القهر الأنثوي واستغلال النساء

نشر في: 4 أكتوبر, 2023: 11:18 م

عدنان حسين أحمد

تستوحي المخرجتان اللبنانيتان نويل وميشيل كسرواني قصة فيلمهما القصير "يرقة" من مقالين لفواز طرابلسي وأكرم فؤاد خاطر وتصنعان منه ثيمة درامية تعالج موضوعات الهجرة، واللجوء، والاندماج، وتكوين الصداقات الحقيقية التي تخفف من وطأة الغربة،

وتجعل الحياة ممكنة في بلد غريب له قيمه وأعرافه واشتراطاته المغايرة التي لم يألفها المهاجرون والقادمون الجدد الذين غامروا بحياتهم من أجل البحث عن مساحة أوسع للحرية والعيش الكريم. وقد خطف هذا الفيلم جائزة "الدب الذهبي" في الدورة الـ 73 لمهرجان برلين السينمائي، وسيشارك قريبًا مع 20 فيلمًا في مسابقة الأفلام القصيرة في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي الذي ينعقد للمدة من 13- 20 أكتوبر 2023م.

وبحسب إشارة الكاتب فواز طرابلسي التي تقول بأنّ أميرًا يابانيًا توجّه "في عهد ميكادو يو-لايك سنة 462م" إلى النساء اللواتي يشتغلن بصناعة الحرير وأحاطهنّ علمًا بأنّ "الحرارة المعتدلة والمثالية التي تنمو فيها الشرانق تكمن في المساحة المحصورة بين أثدائهنّ". والمفارقة أنّ النساء اللواتي تحتضن صدورهنّ الشرانق هنّ نفس النساء اللواتي صبغنَ وغزلنَ ونسجنَ ما لم يستطعنَ شراءه وارتداءه لاحقًا. ومنذ ذلك الوقت بدأت المشاكل تتفاقم يومًا بعد يوم لتدوِّن سيرة الفقر المُدقع، والقهر الأنثوي، واستغلال النساء، وخاصة القاصرات، بشكل بشع يعرّي الوجه الكالح للفكر الرأسمالي الجشع الذي تجلّى في القرن التاسع عشر عندما انتشر سفراء مصانع الحرير الفرنسية في بلاد الشام، وخاصة في جبل لبنان بعد أن تفشّت الأمراض في المزروعات الأوروبية فاستداروا بأعينهم صوب المزارع العربية وأغروا الفلاحين بالأموال من أجل تدمير مزارعهم واستبدالها بأشجار التوت التي تعيش ديدان القز على أوراقها، ولم ينتبه الفلاحون البسطاء إلى أنّ الشركات الفرنسية سوف تترك جبل لبنان ما إن تجد أرضًا رخيصة صالحة لزراعة أشجار التوت وأيدٍ عاملة مغلوبة على أمرها ترضى بأجور متدنية لا تكفي حتى لسدّ الرمق. تُرى، لو لم تُدمِّر الشركات الفرنسية الزراعة في جبل لبنان، ولو لم تحدث المجاعة القاسية في بلاد الشام، ولو ركّزوا على الاكتفاء الذاتي هل كان الشاميون سيقومون بالهجرة إلى البلدان الأوروبية والغرب الأمريكي، ويتحملون أعباء الغربة بما تنطوي عليه من إيجابيات وسلبيات؟

تتسع سردية الفيلم فنعرف أنّ قصة هذا الفيلم تتكئ على زمان ومكان وأحداث كثيرة بدأت تطفو على السطح منذ انتشر سفراء الحرير من مصانع ليون ومرسيليا في جبل لبنان وأنشأوا مياتم تربّي الفتيات القاصرات لمعمل الحرير مدى الحياة حيث أخذ السفراء يطلبون من رجال الجبل أن يسمحوا لنسائهم وبناتهم القاصرات بالعمل في المصانع مقابل معاشات غير مجزية أجبرت الرجال على غض النظر عن موضوع العادات والتقاليد التي كانت لا تسمح بخروج المرأة إلى العمل. فالنساء، بشهادة السفراء، أيديهن أصغر وأكثر مهارة من الرجال. وكنَّ يضعنَ أياديهن الصغيرة مضطرات في مواد كيمياوية حتى يسحبنَ خيوط الحرير من شرانقها، وهي ذات الأيادي التي أُجبرت على التوقيع على عقود لم يعرفنَ قراءتها. كانت نسوة الجبل يعملنَ في مصانع معتمة رطبة تضجّ فيها أصوات المكائن إلى الدرجة التي تمنع النساء من الحديث مع بعضهنَ بعضًا. ورغم ذلك فقد نشأت صداقات عميقة بين العاملات وأخذت منحىً إنسانيًا يصعب نسيانه.

تتنقل أحداث الفيلم بين الماضي والحاضر. وإذا كان الماضي يتحدث عن النساء وبنات المياتم القاصرات ذوات الأيدي الصغيرة الماهرة فإنّ الحاضر في هذا الفيلم يتمحور على شخصيتين اثنتين من بلاد الشام وهما أسما السورية التي جسّدتها "ماسة زاهر" و سارة اللبنانية التي أدت دورها "نويل كسرواني". تنحدر المرأتان من بلاد الشام، وتعملان في المقهى نفسه، وتتحمل كل واحدة منهما مسؤولية الأسرة التي تركتها داخل حدود الوطن الجريح. كانت المرأتان الشاميتان حذرتان من بعضهما بعضًا لكنّ هذا الحذر سرعان ما يذوب ويتلاشى كلما تعمّقت روح المودة بينهما، وتضاعفت العُرى الإنسانية التي يمكن أن تفضي بهما إلى برّ السكينة والأمان.

ثمة حوار عميق ومتوتر يدور بين الاثنتين بعد أن تَهرّب ثلاثة أشخاص من دفع الحساب لسارة الأمر الذي دفع أسما لأن تركض وراء الزبائن الذين أطلقوا سيقانهم للريح وسط شوارع مدينة ليون فشعرت بأنها لم تركض وراءهم فقط لأنهم لم يدفعوا الحساب وإنما هي تركض وراء سنوات من العمل غير المدفوع، أو وراء الأمير الياباني الذي وضع حشرات دودة القز بين أثداء النساء، أو وراء أصحاب المعامل الذين وقعّوها على عقود لا تُحسن قراءتها. أو لعلها كانت تركض وراء حبيبها الذي كذّب عليها، أو وراء صاحب العمل الذي يجبرها على أن تشتغل أطول من الوقت بساعة أو ساعتين، أو أنها كانت تركض بالنيابة عن الناس الذين لا يستطيعون أن يركضوا في خضّم هذه الحياة المكتظة بالمشقّة والألم.

يُقال إنّ خيط العنكبوت أقوى وأجمل بكثير من خيط الحرير لكن العناكب لا تستطيع أن تصنع خيطانها إلاّ لكي تصيد من أجل أن تأكل أو لكي تنتقل من مكان لآخر دفاعًا عن النفس على العكس من دودة القز التي تروّضت على إنتاج الحرير فيما ظل العنكبوت خارج السيطرة وعصيًا على التدجين. تبوح شخصيات هذا الفيلم بالكثير من الأفكار والمشاعر الداخلية فجسد أسما يبالغ بردة الفعل كثيرًا ولا يتفاعل مع المكان الجديد أو يتكيّف معه وكأنه يعيش في حالة طوارئ دائمًا، ومع ذلك فهي تتأمل الناس الذين يحملون باقات الزهور أو الذين يذهبون إلى العمل أو الذين يتناولون وجبات الغداء تحت الشمس فتشعر عندذاك بثقل في صدرها لأنها لا تستطيع أن تمارس الحياة الطبيعية التي يمارسها الناس في بلد جميل ومتوازن يحترم إنسانية الإنسان ويسعى لتحقيقها.

تتواصل أسما مع أمها في سورية وتخبرها بأنها ممكن أن تكون شخصًا جديدًا في المدينة تمامًا كما يحدث في الأفلام عادة وأنها توترت من شيء ما من الماضي كما يحدث الديجا فو أو "وهم الرؤية". ثم تستعيد فكرة النساء اللواتي ضحينَ بالكثير لكن نسبة كبيرة منهنَّ يبددنَ النقود على أمور قد تبدو غير ضرورية حتى أنتشر المثل الشهير الذي يقول "يلّي بطلعو السمرا بتحطّوا بودرة وحمرة".

تعترف المرأتان الشاميتان بأن الكوابيس تلاحقهما من بلد لآخر غير أن التداخلات السلسة بين الماضي والحاضر والنقاشات الحميمة التي تنبع من الأعماق تلامس قلوب المتلقين وتهزّ مشاعرهم، وتجعلهم يتفاعلون مع الثيمات التي تطرحها الوافدتان إلى هذه المدينة الفرنسية التي لم يألفاها تمامًا لكنهما اندمجتا معها تلقائيًا وتحملتا بعض الأفكار والمفاهيم التي تبدو غريبة وغير مألوفة.

تتكرر فكرة استغلال النساء بطرق شتّى، فإذا كانت القاصرة أو حتى المرأة العادية تُستغل في مصانع الحرير، وتُمسخ إنسانيتها، فإن المرأة العاملة في مقهى أو مطعم أو بار أو أي مكان آخر تُستغل وتُهان بقسوة كما حصل لسارة التي سرقوا منها الولاعة ولم يدفعوا فاتورة حسابهم، وسبّبوا لها ولصديقتها الكثير من القلق والتوتر والانفعال، الأمر الذي الذي دفعهما إلى قضاء الليل معًا على مقربة من بحيرة الماء قبل أن تُنهي المخرجتان الشقيقتان المشهد الأخير من الفيلم أمام تمثال تاريخي يمدّ الفيلم بلغة بصرية جميلة وعميقة في آن معًا.

بقي أن نقول بأن المخرجة ميشيل كسرواني كتبت سيناريو فيلم "كفر ناحوم" مع المخرجة اللبنانية نادين لبكي سنة 2018م ثم بدأت مشاريعها السينمائية الخاصة بما في ذلك أول فيلم رسوم متحركة لها. ولديها فيلم روائي طويل قيد التطوير حاليًا بعنوان "أذكروني" الذي تمّ اختياره للمشاركة في برنامج التطوير السنوي لعام 2023م. أمّا نويل كسرواني فهي منهمكة حاليًا بكتابة فيلمها الروائي الأول UN AN وتقوم في الوقت ذاته بتطوير فيلم رسوم متحركة قصير يستكشف موضوع الهجرة Seven Mountains و Seven Seas، الحائز على منحة صندوق إنتاج DFI.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

النجم غالب جواد لـ (المدى) : الست وهيبة جعلتني حذراً باختياراتي

أفضل عشرة أفلام هروب من السجن

معاهد متخصصة فـي بغداد تستقبل عشرات الطامحين لتعلم اللغة

متى تخاف المرأة من الرجل؟

مقالات ذات صلة

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!
سينما

حين تتستر الإيدلوجيا الثورية بقبعة راعي البقر!

يوسف أبو الفوزصدر للكاتب الروائي السوري، المبدع حنا مينا (1924- 2018)، الذي يعتبر كاتب الكفاح والتفاؤل الانسانيين، في بيروت، عن دار الآداب للنشر والتوزيع، عام 1978، كتاب بعنوان (ناظم حكمت: السجن… المرأة.. الحياة)، يورد...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram