لطفية الدليمي
فرحتُ كثيراً وأنا أسمعُ الأخبار المتواترة عن إختيار (أمين معلوف) قائداً للأكاديمية الفرنسية العتيدة لمدى سنوات حياته القادمة طبقاً لقوانين الاكاديمية. سيكون من البديهي أن يفرح العرب لأنّ عربياً مثلهم تبوّأ واحداً من الاعالي المهيمنة في فضاءات الادب أو الثقافة أو العلم أو الفلسفة في العالم الغربي.
هذا مايفعله العقل الذي يحسب إنجازات الآخرين بعضاً من الاسباب التي تعلي شأنه الفردي وميزته القومية تمثّلاً للقول أنّ القرعاء تتباهى بجدائل ابنة عمها!. أمين معلوف عربي، نعم. وهو مسيحي مشرقي، صحيح؛ لكنّ ميزاته المتفرّدة التي إصطنعها بجهده الخاص هي التي شكّلت شخصيته النوعية. ليس كلّ العرب أو المسيحيين المشرقيين أناساً متفرّدين بالتأكيد. الأفضل أن نضع الامور دوماً في حدودها الموصوفة بعيداً عن عمليات (الجراحة الثقافية التجميلية) التي تتوهّم إختراقاً قومياً أو دينياً لجهد هو فرداني بطبيعته ويأبى التعميم الجمعي. هكذا نحن: نريد قطافاً جاهزاً من غير دفع أثمان الرعاية الواجبة.
أمين معلوف كائن ثقافي متميّز للغاية، وليس هذا بغريب على العائلة (المعلوفية) التي كان لها شأن وصيت لايخفيان في خريطة الثقافة اللبنانية والعربية. من يقرأ أعمال معلوف لن يكون صعباً عليه حَدَسُ تلك الخصيصة الانسانية الكونية في كتاباته. هو يكتب برؤية إنسان كوني وإن إنطلق من المحلية الجغرافية أو التاريخية. يمكن لشخصية تاريخية معروفة بسماتها المحلية أن تستحيل على يدي معلوف إلى شخصية عالمية (أو كونية). ليون الافريقي في نهاية المطاف يمكن أن يكون شخصاً معاصراً يعيشُ في غابات الامازون ويسعى لتغيير واقع حاله بجهد ملحمي. ثمة العديد من نظراء (ليون الافريقي) في عالمنا المعاصر، وبعضهم من ذوي الاصول العربية. موضوعة (الهوية Identity) هي الهاجس الاكبر لدى معلوف وأظنُّ أنّ كتابه (الهويات القاتلة) يصلح للتدريس الجامعي في كلّ جامعات العالم في سياق تدريس الانسانيات. كذلك هي موضوعة (غرق الحضارات) وتفشّي نزعات التحلل وانعدام الشعور بالمسؤولية المحلية والكونية. يبدو أننا نمارسُ إنتحاراً جماعياً هذا بعضُ مايحكي عنه معلوف في كتاباته.
فاز معلوف بكرسي رئاسة الاكاديمية الفرنسية العريقة بجهده وفكره. ليس في الامر ترتيب مؤامراتي. تخيّلَ بعضُ المسكونين بعقل المؤامرة أنّ فرنسا التي صارت تخسرُ بعض أهمّ مواقعها الكولونيالية القديمة صارت في مسيس الحاجة لإستمالة الاطراف ذات المواريث الفرنسية، وفي سياق هذه الاستمالة حصل إختيارُ معلوف لرئاسة الاكاديمية الفرنسية. هذه أخدوعة. الحقيقة أنّ حاملي لواء الدفاع عن التقاليد الفرانكوفونية العريقة أصابهم الوهن الذهني والحضاري. تعبوا ونخرهم الملل. فرنسيون كثيرون يرون اليوم أنّ الاكاديمية الفرنسية التي تأسست في القرن السابع عشر لم تعُد تملك مسوّغات وجودها، وأنّها صارت محفلاً لعواجيز الثقافة الفرانكوفونية. تخيلوا أنّ خمسة من المقاعد الاربعين في الاكاديمية ظلّت فارغة لم يشغلها أحد منذ وفاة أصحابها حتى اليوم. هل بعد هذا من شاهدة أمرّ وأقسى على السياق الواهن الذي تعمل به الاكاديمية؟
أرى في واقعة إختيار معلوف لهذا المركز الفرانكوفوني الكبير مصداقاً لفواعل ماأسمّيه (الانتروبيا الذهنية والحضارية). منذ سنوات بعيدة وأنا أفكّرُ في هذه الانتروبيا التي هي في نهاية المطاف فكرة أساسية مستمدّة من الفيزياء، والاصح أنها القانون الثاني في الفيزياء الحرارية والديناميك الاحصائي. الفكرة بسيطة وتبدو بديهية كلّ نظام فيزيائي معزول يميل لزيادة مستوى الانتروبيا (بمعنى العشوائية) مع الزمن. لننتبه إلى مفردة (معزول) لأنها شديدة الدلالة والاهمية. لا يمكن تقليل العشوائية أو المحافظة على مستوى العشوائية الراهنة إلا بفعل خارجي
الانتروبيا الذهنية تعمل على المستوى الفردي. عندما يمتلك الفرد قدرة على العمل الجاد والمنظّم لأشواط زمنية طويلة سعياً لتحقيق غاية مصطفاة بدقّة فإنّ مستوى الانتروبيا (العشوائية) الذهنية لديه يكون في حدوده الدنيا. وبعكس هذا عندما يعيشُ المرء متفلّتاً من أية غاية جاذبة له ومحرّكة لدوافع العمل والانجاز لديه فإنّه يكون حائزاً على إنتروبيا ذهنية عالية العجز عن تعيين غاية ومن ثمّ العمل الجاد لتحقيقها هو مؤشّر الانتروبيا الذهنية لدى الفرد
حتى لانبقى نحوم في إطار التوصيفات التنظيرية دعوني أبيّن لكم هذه الحقيقة برواية حصلت في الواقع. قرأتُ مرّة عن عراقي سعى لمغادرة العراق أيام الحصار الجائر الذي فرِض عليه في تسعينيات القرن الماضي. كان همّ الرجل أن يغادر العراق لأجل أن يحظى بطعام يليق بكائن آدمي. يقول الرجل أنه عندما وصل الولايات المتحدة الامريكية راح يتناول شطائر الهمبرغر بإفراط وكأنّه ينتقم من أيام جوعه العتيق. حصل مع الايام أن تناقصت شهية الرجل للشطائر حتى صار يتناولها بين يوم ويوم ثمّ صار يتناولها أسبوعياً، ثمّ إحزروا؟ صار صاحبنا نباتياً متطرّفاً لايطيق رؤية اللحوم أو ذكرها أمامه!! هل ترون فواعل الانتروبيا هنا؟ عندما حضرت لفّة الهمبرغر تعاظم فعل الانتروبيا ولم يسعَ صاحبنا للجمه بفعل قصدي معاكس. هذا المثال يصلح لأن يكون أنموذجاً قياسياً لحالات كثيرة
مثال الانتروبيا الذهنية يقود لمساءلات واستفهامات دقيقة. منها مثلاً: كثيرٌ من العراقيين عرفوا الغرب وقوانين الحياة فيه عن طريق البعثات الدراسية. أغلبهم أصيب بصدمة هي غير الصدمة الحضارية الكلاسيكية: كانوا يتساءلون أنّ المناهج الدراسية في أرصن الجامعات الغربية لاتكاد تختلف عن نظيراتها في الجامعات العراقية، وأنّ الطلبة العراقيين ربما كانوا أكثر إنكباباً على الدراسة والمتابعة العلمية؛ فلماذا إذن هذا الفارق العلمي والتقني بين الغرب والعرب؟ ستختلف رؤاهم بالتأكيد؛ لكن التمحيص الدقيق سيكشف لنا أنّ القدرة على العمل والانجاز ربما هي أعلى عند الطلبة العراقيين لأنّ دوافعهم أعظم من دوافع نظرائهم الغربيين؛ غير أنّ عوامل معاكسة تعمل على تثبيط عزائمهم الموجّهة نحو الانجاز الدقيق وبالتالي يحصل تعظيم لمناسيب الانتروبيا الذهنية لديهم عبر إشغالهم بتفاصيل جانبية قد تجعلهم في نهاية المطاف منكفئين في عوالم ضيقة تبعثرُ أهدافهم التي إعتزموا تحقيقها في نقطة الشروع الاولى من عملهم.
قانون الانتروبيا الذهنية هذا هو مافعل فعلَهُ مع حالة أمين معلوف: رجلٌ مشرقي جاء محمّلاً بإرث فرانكوفوني لايحمله كثير من مستوطني الاحياء الباريسية أو سكّان كبرى الحواضر الفرنسية ثمّ استطاع هذا الفرانكوفوني المشرقي أن يترك له بصمة مؤثرة في الثقافة الفرنسية. بلغة الانتروبيا فإنّ معلوف نجح في حصر الانتروبيا الذهنية في حدودها الدنيا في الوقت الذي طفح فيه مكيال هذه الانتروبيا لدى سواه من الفرنسيين. الفرنسيون ليسوا غشماء عندما يسلّمون قيادة المحفل الفرانكوفوني الاكبر في العالم لشخصية مثل معلوف. هم يحسبون الامور وفقاً للنتائج المرجوة منها بعيداً عن الاعتبارات القومية أو الدينية. الامر ذاته حصل مع (ريتشي سوناك) رئيس الوزارة البريطانية. كان أداء رؤساء الوزارة من البريطانيين الخلّص في غاية السوء، وأحياناً في غاية الغباوة والفضائحية. عرف البريطانيون أن قانون الفعل الانتروبي يجب أن يفعل فعله؛ فقبلوا برئيس وزراء من مستعمرة بريطانية سابقة. منذ أكثر من سنة ونحن لم نسمع بفعل غبي أو فضائحي على مستوى السياسة والاقتصاد أقدم عليه سوناك، وهذه شاهدة على صوابية الخيار البريطاني.
أما الانتروبيا الحضارية فلا أراها سوى حاصل تجميع للانتروبيات الفردية. أظنُّ أنّ أطروحة (إبن خلدون) يمكن إعادة قراءتها طبقاً لقانون الفعل الانتروبي على المستوى الحضاري (أو الجمعي إذا شئنا القول).
الموضوع أدسمُ وأكبر من مقالة واحدة. سأتناول تفاصيل أخرى عن الموضوع في قنديل قادم.