أسامة الشحمانيجنيفلقد حققت لي سنوات دراستي في كلية الآداب جامعة البصرة (1995-1998) فرصة اللقاء بالشاعر الكبير محمود البريكان في بيته في مدينة البصرة/ حي الجزائر. كنت ألتقيه بشكل دوري منظم لأسباب تتعلق بمستلزمات كتابة رسالتي* لنيل درجة الماجستير، والتي جرى إعدادها تحت إشراف أستاذي الراحل أ.د. أحمد جاسم النجدي.
وقبلتها اللجنة المناقشة برئاسة أ.د. مصطفى عبد اللطيف في كلية الآداب بتاريخ 11،1، 1998 بتقدير جيد جيداً. ولقـــــد ألـحـحـــت على البريكان، في لقاءات متعاقبة كان آخرها قبل المناقشة بثلاثة أيام علَّه يعدل عن رفضه ويشرِّف الجلسة بحضوره، ولكنه لم يفعل. هذا الحوار هو شيءٌ مما أحتفظ به للشاعر البريكان من أرشيف لقاءاتي به، أخص به جريدة المدى بالتزامن مع صدوره كجزء مما تضمنه كتاب الصديق الناقد د.حسن ناظم "الشعرية المفقودة" من شهادات. والذي صدر حديثا.الكاتبrn الكتابة عن الشاعر الكبير محمود البريكان فعلٌ شائك لأنه يعني الدخول الى عوالمه عبر تساؤلين متوازيين يعالق أحدهما الآخر في وحدة الدائرة الدلالية التي يدوران فيها، يكمن التساؤل الأول في العزلة الإرادية التي جعل منها البريكان حاضنة لحياته، في ماهيِّة أو مسوغات تلك العزلة القصدية التي شكلت بالنسبة له موقفاً وجودياً عميقاً حدد على أساسه مجمل مساراته الحياتية، إذ نأى بنفسه عن كل تمظهرات الفعل الإستعراضي اليومي على اختلاف مستوياتها، فضلاً عمَّا عرف به من إستجابة خافتة إن لم نقل منعدمة لكل ما يدعو للشهرة والشيوع؟أما التساؤل الثاني فيقع في إنعكاس هذا الموقف الوجودي على البريكان مبدعاً، والعلاقة بين نص البريكان وسيرته الذاتية، حيث حرص على نسج شعريته بتفرد تام، ثمَّ حكم عليها أيضاً بالابتعاد عن كل دوائر الضوء، على الرغم من كونها تجربة مهمة ترك القليل الذي ظهر منها آثاراً واضحة المعالم على خارطة المشهد الشعري العراقي.بهذين التساؤلين وما يمكن أن يولد من رحميهما أقتحمتُ عزلة الشاعر محمود البريكان العام 1996، وكان الشاعر حسين عبد اللطيف هو من رتب لي موعد اللقاء الأول معه، إذ لا يمكن لك أن تدخل أجواء هذا الإعتزالي الكبير من دون شرح سابق. كان بانتظارنا، وقد رحَّب بنا بخُلقٍ عربي مطعم بهدوءٍ ومدنية راقية لعل أولى علاماتها ذلك الصوت الخفيض الذي يُسرِّبُ لك استقراراً نفسياً يجعلك تشعرُ بالأمان للمفردة التي يستعملها، بعد أن قدَّمني له الشاعر حسين عبد اللطيف أعربت عن سروري بفرصة اللقاء به، فجدد ترحابه ثم باغتني بصوت هادئ : ما الذي يدعوك الى دراسة البريكان؟ فأجبتُ بالتركيز على ما لتجربته الشعرية من أهمية تستحقُ أن تُفرد لها دراسة أكاديمية، لاسيما وأن كلَّ ما رافق المنشور من نصوص البريكان من قراءات نقدية في صحف ومجلات عديدة لمّا يرتق الى مستوى الدراسة الموضوعية، لأنها وبالمقاييس والإشتراطات البحثية التي يفرضها المنهج الأكاديمي لا يمكن الإعتداد بها لتقييم الظاهرة الشعرية. سألني بعدها عن مدى علاقتي بنصوصه وما الذي شدني إليها بالشكل الذي أدى الى خلق باعث دراستها ؟ وقد نوه في غير مرة الى إن بحوزته مما لم ينشر الكثير جداً من النصوص التي يرى أنها أهم بكثير مما نشر. فأستعرضتُ له تاريخ علاقتي بنصوصه وكيف كانت مادة لأحد البحوث التي قدمتها في الدراسة الأولية في جامعة بغداد، ثم استطردت له بأهم ما شدني الى تلك النصوص متناولاً ظاهرة الإنتظار بوصفها مهيمنة طافية على العديد من الدلالات، وكامنة في الكثير من الصور الشعرية التي تفضي إليها نصوصه. كان مستمعاً رائعاً ينأى عن كل ما يمكن أن يشتت إنتباه محاوره أو يضعف تركيزه على موضوعة الحوار ، على أنه حذرٌ وهياب للإنفتاح في قنوات الحوار أو حتى توسيع دوائره، على الرغم مما يملكه من قدرة مدهشة على شد محاوره، ومتابعة جيِّدة للوسط الثقافي العراقي، فلم تمنعه عدم مشاركته فيه من معرفة أدق تفصيلاته، وسأورد هنا حواري معه في أحد اللقاءات التي أعقبت ذلك اللقاء الأول، والذي كان في أوائل ديسمبر 1996:* أستاذي الفاضل حين تقع عينا المتلقي على نص مما نشر لكم يتبادر الى ذهنه فوراً صمت محمود البريكان، بشكل ربما يشغله عن النظر في شعرية ذلك النص، حتى أن ما ينشرُ لكم من زمان لآخر يُتعاطى معه داخل الوسط الثقافي العراقي من زاوية كونه خرقاً لحجاب العزلة قد يصرف النظر أحياناً عما للمنشور من أهمية إبداعية، فهل لصمت البريكان قيمة شعرية؟- في البداية أنا لا أكتب من أجل النشر، ولم يشكل ذلك بالنسبة لي هماً أو إفتراضاً يتقدم الكتابة بالمفهوم القبلي، فعلاقتي مع فعل الكتابة ذات صلة مباشرة بوجودي كإنسان يفكر أو يتأمل بغض النظر عن أهمية إشراك الآخر في هذه التأملات، وأنا لا أقول أنني أكتب لنفسي، أو أنني أكتب لأتسلّى، وإنما أنا أعيش فعل الكتابة كأفعال أخرى تتفاوت نسب أهميتها على أنها في المجمل العام لا بد لها من أن تقع، بوصفها إشارة الى الحياة، وأنا مؤمن تماماً بأن الشعر
آخر معتزلة البصرة في حوار لم ينشر سابقاً..هكذا عرفت محمود البريكان
نشر في: 21 أغسطس, 2010: 06:05 م