اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نحن والتنوير

نحن والتنوير

نشر في: 10 أكتوبر, 2023: 10:50 م

كه يلان محمد

مازالت المجتمعات والنخب العربية تطرح سؤالا مكررا وبلا إجابات شافية، هو: لماذا فشل التنوير في العالم العربي؟ وهو سؤال ملح اليوم شريطة أن تتصدى له النخب بجرأة، ما قد يمكّن من فهم أسباب الانتكاس والتراجع، وغياب المشروع الحداثي الحقيقي والمؤثر. وهو ما يحاول تفكيكه الباحث والمفكر السوري هاشم صالح.

العالم على مشارف تحولات مفصلية ومن المتوقع رؤية شكل جديد ونسخة غير معهودة من الحياة في غضون السنوات القادمة. وهو ما يعني أن التفوق المبشر بالفتوحات يكون عنوانا للمستقبل على الأصعدة كافة. صحيح أن مقابل ما يلوح في الأفق من قفزات علمية وتقنية توجد تحديات وبائية وبيئية، غير أن المطبات لا تعيد عقارب ساعة العقل العلمي إلى الوراء، ولا تقيد المشاريع المستقبلية بسقف الأفكار التقليدية.

ووفق ما سبق، يبدو غريبا إلى حد ما أن واقعنا الفكري ما يزال مسقفا بسؤال ينتمي إلى القرن الثامن عشر عندما سأل كانط "هل نحن في عصر التنوير؟"، فكان جوابه نحن في طريقنا نحو التنوير. بالطبع أن الغرب منذ ذاك الوقت إلى الآن قطع أشواطا طويلة ونجح في اختبار التناحر الطائفي والمذهبي ونهض من ركام الحربين العظميين أكثر قوة وطموحا، وحقق إصلاحا في الهيكلة السياسية والنظام الاقتصادي، أما على المستوى العلمي فحدث ولا حرج.

ماذا بشأن الواقع الشرق أوسطي؟ هل أدرك زمن الأنوار وردم الهوة التي تفصله عن حركة العصر؟

يرى الباحث والمفكر السوري هاشم صالح أن العالم العربي والإسلامي معاصر للغرب زمنيا ومتخلف عنه معرفيا، وما يؤكد ذلك الكلام هو التفسخ في النظام الإداري والتطاحن على الخلفية المذهبية والطائفية والجمود في المؤسسات التعليمية وإخفاق الحراكات الجماهيرية، كل ذلك من أعراض واضحة لأزمة متفاقمة في العالم الإسلامي وما يزيد من المعضلة برأي صالح تضخم العقلية اللاهوتية وهيمنة التيار التراثي.

يعتقد صالح أن الأولوية يجب أن تكون لبناء المعارف الصحيحة على أنقاض المعرفة التقليدية، قبل ذلك لا يمكن تفكيك العصبيات الحاضنة لبذور الاقتتال والتكفير. ويعترف صاحب "لماذا يشتعل العالم العربي؟" بأن الطائفية وعذوبة العصبيات الدينية لا يُستهان بإغراءاتها لأن الإشكالية لها أبعاد تاريخية ونفسية واجتماعية. ومن المعلوم أن التعصب ليس وقفا على الدين إنما أي فكرة متلبدة بنفس أيديولوجي قد تؤجج التعصب والعنصرية.

لا ينقطع هاشم صالح عن التنقيب في تربة الفكر الديني ومناقشة منابع الثقافة الارتكاسية في مجمل كتاباته، كما أن الهموم التنويرية هي فكرة ناظمة لمؤلفاته وحفرياته السيرية، إذ يستعيد في كتابه "من التنوير الأوروبي إلى التنوير العربي"، الصادر أخيرا عن دار المدى، محطات من نشأته في بيئة مطبوعة بالثقافة التقليدية. فقد كان غارقا في أجواء محافظة. والحال هذه، لا ينفصل صراع الكاتب مع التيار الأصولي عن مساعيه الحثيثة لتفكيك عقدة الأب والقطيعة عن سلطته الرمزية. يقول "كنت بحاجة ماسة إلى التخلص من تلك التربية القعمية المتزمتة التي رباني عليها ذلك الشيخ المتجهم منذ نعومة أظافري".

إذن ما إن يطأ صالح القدم في باريس حتى يتأكد بأن النقلة الفكرية لا تتحقق في الفراغ بل تتحرك على أرضية واعدة بالفتوحات والنقاشات، وهو ما يحجز للغرب موقع الأسبقية قياسا على البلدان التي يطيب لنخبتها السياسية والثقافية الصمت عن أصول الأزمات والتدوير للشعارات المستهلكة. وما يتمخض عن ذلك بالطبع هو الضمور العقلي والارتداد نحو الماضي.

يتفاجأ مؤلف "العرب والبراكين التراثية" بأن هموم المثقف الفرنسي تختلف عن الهموم التي تؤرق نظيره العربي. والتظاهر بوجود الهموم المتطابقة لدى الطرفين لا يلغي السؤال المؤجل "أين أنت من التنوير؟".

إذن، قبض صالح على الحلقة المفقودة. وفهم التفاوت التاريخي بين الواقعين الإسلامي والغربي. وكان محمد أركون دليله إلى جادة الصواب، فالمعروف عن أركون توظيفه للمناهج الألسنية والأركيولوجية الجديدة في قراءة النصوص الدينية، ويقوم مشروعه على أرخنة مقاصد النص المؤسس. ومع

معاينة مقومات الحداثة يكشف صالح عن تيارين في التنوير الأوروبي، الأول يكون أقرب إلى الروحاني المؤمن يمثله كل من كانط وروسو وهانز كونغ وبرغسون، وفي المقابل ثمة التيار الإلحادي على طريقة ماركس وفيورباخ ونيتشه. وما يوافق مزاجه على الأكثر هو التيار الأول.

ويتناول صالح تبعات التسييس اللاهوتي على الحريات الشخصية في الكيانات الثيوقراطية انطلاقا من مقتل الشابة مهسا أميني والإكراه على التقيد بقشور الدين والتغافل عن المبدأ القرآني المتمثل بـ"لا إكراه في الدين".

تعود جذور الفكر المتشدد حسب قراءة هاشم صالح إلى عام 1018 ميلاديا وإصدار البلاغ السلطاني الذي نص على تكفير المعتزلة، كما أن كتاب "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالي قد لعب دور كبيرا في نبذ مفهوم الفلسفة إلى أن سادت مرحلة الانحطاط الفكري. ويجوس الكاتب في الأدبيات الغربية متابعا نظرة المفكرين عن الإسلام واللافت في السياق هو ما يقوله رجيس دوبريه عن المجتمع الإيراني الذي يراه منفتحا بخلاف ما بدا له من البعيد. والأهم ما يرد في الفصل الخاص بالمفكر داريوش شايغان هو قوله إنه شخصية مكونة من ثلاث هويات متراتبة بعضها فوق بعض، الفارسية القديمة والإسلامية والحداثية الأوروبية.

ويعزو شايغان كراهية العالم الإسلامي للقيم الحداثية إلى ظاهرة الاستعمار من جانب والإحساس بالفشل التاريخي الذريع أمام الغرب المتغطرس من جانب آخر، وهو ما يحيلنا إلى رأي سعيد ناشيد حول السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان "لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟". تضمر الصياغة الأرسلانية شحنات تذكي الانفعالات السلبية وغرائز الانحطاط حسب تحليل ناشيد. ولا يغيب محمد أركون عن انشغالات صالح، بل إن الأخير يعتبر نفسه امتدادا لمشروع مؤلف "نزعة الأنسنة في الفكر الإسلامي". فقد حاول أركون تدشين منهج تفكيكي للخروج مما يسميه بالسياجات الدوغمائية المغلقة.

ويلتفت صالح إلى محاولات المفكر التونسي محمد الشرفي لتحديث النظام التعليمي ومعاركه مع التيارات المعادية للعقلنة. ويقدم الكاتب إضاءات كاشفة لمشروع جورج طرابيشي وحفرياته العميقة للمرحلة التي شهد فيها الفكر الديني التحول نحو ما يصطلح عليه بإسلام الحديث. وما يحسب لطرابيشي هو اختراع المصطلحات لأن الفكر الجديد لا يستقيم دون عكاز المصطلحات والتحديث في المعجم.

لا يغادر صالح على امتداد قراءاته المتتابعة إشكاليات الفكر الديني متكئا في مباحث كتابه على مفاهيم فكرية حديثة وأعلام الاستنارة العربية والإسلامية، وعلى الرغم من الانتكاسات التي قد تبوء بها الحراكات التنويرية، غير أنه يؤمن بما قاله هيغل بأن التاريخ عقلاني حتى لو كان الواقع حافلا بمظاهر غير عقلانية.

شأن أي مفكر رزين لا يسوق صالح للحلول الخلاصية العاجلة بل يستعيد ما أكد عليه كانط بأن المهم في حركة التنوير هو حجم المتعاطفين معها للإبانة عن ضراوة الصراع وعدم الاستغراب من فوز المناوئين للعقلانية في الانتخابات، لأن الحداثة ليست لها مرجعية متينة في مجتمعاتنا. والسؤال الجوهري في هذا الإطار هو إذا كان الإسلام المنفتح والمتنور قد وجد عند العرب قبل ألف سنة في عهد المأمون فلماذا لا يوجد الآن؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

 علي حسين كان الشاعر الزهاوي معروف بحبه للفكاهة والظرافة، وقد اعتاد أن يأخذ من زوجته صباح كل يوم نقوداً قبل أن يذهب إلى المقهى، ويحرص على أن تكون النقود "خردة" تضعها له الزوجة...
علي حسين

باليت المدى: على أريكة المتحف

 ستار كاووش ساعات النهار تمضي وسط قاعات متحف قصر الفنون في مدينة ليل، وأنا أتنقل بين اللوحات الملونة كمن يتنقل بين حدائق مليئة بالزهور، حتى وصلتُ الى صالة زاخرة بأعمال فناني القرن التاسع...
ستار كاووش

ماذا وراء التعجيل بإعلان " خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!!

د. كاظم المقدادي (3)ميزانية بائسةبعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة...
د. كاظم المقدادي

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

غالب حسن الشابندر منذ أن بدأت لعبة الديمقراطية في العراق بعد التغيير الحاصل سنة 2003 على يد قوات التحالف الدولي حيث أطيح بديكتاتورية صدام حسين ومكتب سماحة المرجع يؤكد مراراُ وتكراراً إن المرجع مع...
غالب حسن الشابندر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram