د. قاسم حسين صالح
القسم الثاني
تعدّ انتفاضة تشرين/اكتوبر 2019..اكبر وأطول احتجاج جماهيري بتاريخ العراق من يوم اصبح دولة عام 1921، فهي استمرت اكثر من ثلاثة اشهر في بغداد ومدن الوسط والجنوب..
واضافت لها مدينة الناصرية بعد عام! تظاهرات شهدت مجزرة حملت اسمها، قتل فيها شباب عند جسر الزيتون حمل على اثرها اسم (جسر الشهداء) لتضيف لتاريخها العريق موقفا وطنيا بطوليا شهدته ساحة الحبوبي، و لتذكّر الجماهير العراقية بتظاهرات ساحة التحرير في بغداد قبل سنة. وللتوثيق فان آخر خيمة للمعتصمين في الناصرية.. رفعت بعد أكثر من عامين من الاحتجاجات!
كانت شواهد جماهريتها متنوعة ومبتكرة، فلقد شهدت بعيني شاحنات تحمل متظاهرين حاملين اعلاما عراقية، واخرى دينية معظمها يحمل اسم الامام (الحسين) ويهتفون (بالروح بالدم نفديك ياعراق) جاءت من مدن العراق الوسطى والجنوبية، رغم ان الحكومة اعلنت حظر التجوال وقطعت خدمات الأنترنت.
واروع ما يميز انتفاضة (ثورة) تشرين أنها لم تكن بدعوة من أي جهة سياسية، ولا بتحريض من معارضين للنظام، بل كانت جماهيرية اسقطت ما كان سائدا في تاريخ كل التظاهرات التي كانت تتبناها جهة سياسية او حزب او قومية..واسقطت ما اصطلحنا على تسميته بـ(ثقافة القطيع) حيث كانت جماهير الانتفاضة هي القائد فيما كانت سابقا تقاد الجماهير بعمامة او سياسي معروف. واجمل ما يميزها انها كانت (عراقية) في جماهيرها بعيدة عن الطائفية والعشائرية والمذهبية والقومية والحزبية، و (وطنية) خالصة لم تقم بتحريض دولي او دعم اجنبي.
محاضرة ساحة التحرير
كنت وعدت صاحب مكتبة (دار سطور..ابو بلال) تلبية دعوته بالقاء محاضرة على متظاهري تشرين الذي بنى خيمة قبالة نصب الحرية على بعد امتار منه.حضرت مساء وكانت الخيمة غاصة بالحضور بينهم الصديقان المغيبان (توفيق التميمي و مازن لطيف) وجرى حديث مع الحاضرين.كانت الوجوه كلها مبتشرة، وكانها كانت على يقين بانهم سيحققون حلما مساحته وطن عريق بحضارته التي علّم فيها العالم الكتابة، وصنع اول قيثارة، وكتب اول نص غنائي..وطن جميل بأهله ثري ومتنوع بخيراته يستعيدونه من فاسدين افقروا الملايين.
قلت لهم: ان حلمهم هذا لن يتحقق ما لم يتوحدوا، فأجابني بلال (صاحب الخيمة):
- ارجوك دكتور..لا تتحدث عن هذا الموضوع، لأن اخاف عليك يسمعوك (حجايه ما زينه).
وبدأت.
كان الواقفون امام الخيمة..لا يعدّون..معظمهم شباب، وبينهم كبار(افندية ومعقلّين). رحبت بهم (هلا بالأبطال،هلا بالثوار، هلا بأحفاد ثورة العشرين...)، واوجزت لهم تاريخ الانتفاضات في العراق، بدأتها بتظاهرة عشائر الخزاعل وزبيد والمنتفق زمن الحكم العثماني في تحديهم للقوات العثمانية والأنكليزية، مرورا بثورة العشرين وصولا الى قصيدة الجواهري في رثاء اخيه جعفر(اتعلم انت ام لا تعلم، بأن جراح الضحايا فم....) وقوله (وانك اشرف من خيرهم، وكعبك من خده اكرم).. وربطتها بانكم اِشرف من فاسدين استفردوا بالسلطة والثروة.
ولحظة قرأت في وجوههم الرضا وانجذابهم نحوي، قلت لهم بما مضمونه ان كل الأنتفاضات،كل الثورات في العالم لن تحقق اهدافها الا بشرطين: ان تكون لها قيادة موحدة، وأهداف محددة، وبدونهما تفشل.. وقلت العبارة التي حذرني (بلال) منهم: أنكم مدعوون الى ان تتوحدوا...فكان التصفيق!
وسمعت صوتا من وسط الواقفين:
الله وايدك دكتور..اصعد فوك لقياداتهم (يعني المطعم التركي) واقنعهم..كل واحد منهم راكب راسه.
ودّعوني..وتوجهت بحثا عن (تكسي)، فمشى معي ابو بلال وثلاثة آخرين..تقدمنا امتار فقلت لهم شكرا..مع السلامة، فأجاب ابو بلال:
ــ موقبل ما تصعد تكسي..نخاف عليك!