حيدر المحسن
كنتُ أعددتُ زاويةَ هذا الأسبوع منذ زمان، وأعدتُ كتابتها مرّات، وراجعتها كثيرا فهي تدور عن نوع من الألم نبتلي به، ولا يوجد له عِقار أو أمل بالشفاء. أكتب النصّ وأشطب هنا، وأضيف وأزيد وأطرح، وأتعبتُ السيّدة التي تقرأ معي ما أكتب، ومعها ابنتي، وكذلك الصديق الشاعر نامق سلطان.
كنتُ أشاء أن يكون النصّ هذه المرّة جديدا في شكله ومعناه. ثم صارت الأحداث الأخيرة منذ يوم السبت وحتى الساعة، ولم يخطر في بالي إلّا عند فجر هذا اليوم، الثلاثاء، أن أكتب شيئا عن النار التي تجابه النار. ليس أمامي غير ساعات قليلة، وأبعث الزاوية الأسبوعيّة إلى هيئة تحرير صحيفة المدى، فهل يساعدني الخاطر والوجدان في تقديم ما يريدُ أن يقوله اليراع، عن الحرب التي أخذت اسما أدبيّا هذه المرّة: "طوفان الأقصى"؟
الشاعر اليوناني جورج سيفيريس هو القائل: "النار بالنار تشفى..."، والمقصود بها نار الحبّ والوجد والغرام، حين يفنى الحبيبان في بعضهما بعضا، ويصيران زهرة واحدة عند العناق.
إن جميع الأوطان وطن واحد، وكذلك الشعوب المتعدّدة، فهم من سلالة واحدة وجاؤوا من أمّنا جميعا، لكنّ لعبة الحظّ لا تكفّ عن الدوران، فهي التي ترفع هذا وتخفض من تشاء أن تصيبه باللعنة والسوء. كتب أبو الحيّان التوحيدي رأيا فيه هذا المعنى في "الإمتاع والمؤانسة"، لكن التوحيدي لم يقل شيئا عن أصحاب العقول القليلة التي تستخفّ بهم هذه اللعبة، وتلهو بهم، فترفعهم وتنزلهم أسفل سافلين، واللاعب صار هو الملعوب به، وأعني بهم الرجال من الصنف الذي لا يرتضي الأخُ إلا أن يقتل أخاه، والشاهد قصّة هابيل وقابيل الشهيرة...
يقف "أولاي" بجوار سرير زوجته "مارتا" في رواية "صباح ومساء" لصاحب نوبل في هذا العام "يون فوسه"، وكان الزوج يتطلّع إليها، والمولود الجديد، ابنه، يرقد على ثديها. يفكّر الزوج أن يقول شيئا، فهو لا يمكن أن يظلّ واقفا هكذا متلعثما دون أن يتفوّه بكلمة. تفتح "مارتا" عينيها وتنظر إلى زوجها، لكنه يتعذّر عليه فهم معنى نظرتها، تبدو كأنها تتطلّع إليه من مكان سحيق، وتعرفُ شيئا لا يعرفه هو. إنه لم يفهم النساء قط، وعندما يفكّر بالأمر يجد أنّهنّ يعرفنَ شيئا انغلق عليه فهمه. شيءٌ لن يفصحن به لأحد أبدا، وهو على يقين من أنّهنّ لا يقدرنَ أن يفصحنَ عنه لأنّه لا يُقال.
يضعُ يون فوسه – فلنحفظ هذا الاسم جيدا – يده على الحقيقة السامية في الوجود، والتي لا يمكن التعبير عنها بكلمات، ولا بواسطة الأفعال. كأن النساء حين يلدننا، يصنعن لنا أوطاننا. يصف وليد خازندار، شاعر فلسطين، بلاده بهذه الصورة:
"نحن ندفعُ فديتها كاملة كلّ يوم
تكلّفنا ما نقدرُ عليه، وأكثر
ما لا يزولُ
ما لا يُستعادُ
ما لا يمكن استرداده حتّى بها
ما من أجله تكون البلاد".
السرّ الذي كشفهُ يوسه، يعود ثانية هنا، ولكن بصيغة الشعر. تمتلك المرأةُ هذا السرّ، ويأتي الرجل ويشطب على هذا الفعل الأجلّ. للشاعرة الفرنسيّة أندريه شديد تعريف جديد للوطن: "وطن المرء أو مكانه لا تحدّه خريطة الجغرافيا بل خريطة الأعماق"، والأمّ وحدها تمتلك السرّ الخفيّ في هذه الأعماق، وهو المعنى الذي أراده فوسه، وخازندار.
أنظرُ إلى الأحداث التي تجري في هذه الحرب، وأشعر أن أهل فلسطين أهلي، وجنود العدوّ القتلى والأسرى، وقد صاروا بلا حول ولا قوّة، كأنهم أخوتي وأبنائي، ولدتهم أمّ تشبه أمّي لأنها تملك السرّ الأسمى، وجاء الرجل الشرّير، وداس بحذائه على ما في القلب من كلام مقدّس. يأخذ هذا المعتوه في كلّ عهد اسما، هتلر أو صدام حسين أو نتنياهو. ما الذي يريده هذا (النتن) في قتل وتشريد أهلنا في فلسطين؟ وهل هناك من يُعيده إلى صوابه؟ بوركَ الضوء الذي ينير لنا الظلمة، وإن كان مصدره اللّظى.
النارُ بالنار تشفى...
هل يجيء زمنٌ تلتقي فيه شعوب الأرض، وقد برأت من أمراض الجشع والطمع والكُره، ويُعانق فيه الإنسانُ أخاه، وتُزهر من هذا العناق دارُ النعيم؟