اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > أورباخ: من النفور إلى التحيز

أورباخ: من النفور إلى التحيز

نشر في: 15 أكتوبر, 2023: 11:05 م

د. نادية هناوي

يفرض التفكير في اللاواقعية التحري عن الأسباب التي تقف وراء اهتمام الفلاسفة الغربيين بالتنظير للواقعية وكيف أصبحت مذهبا مهما في السرد الأوربي الحديث،

وغدت منذ القرن التاسع عشر ظاهرة جمالية تنعتق انعتاقا كاملا من اللاواقعية وأنها أكثر كمالا وأهمية لتفريقها بين ما هو أصيل وما هو مشوه. ولعل وقوفا عند واحد من فلاسفة الواقعية وهو ايريش اورباخ سيعطينا بعض الأجوبة على ما تقدم فهو من منظري الواقعية المؤمنين بأن من غير الممكن مضاهاة الواقعية الهوميرية بواقعية العهد القديم أي أن الأسلوب البلاغي الرفيع لا علاقة له بالواقعية.

وصحيح أن الفن مكمل للحياة ومن خلاله نتمكن من الوصول إلى حقائق خفية على أساس أن الفن يسد الثغرات ويوصل بين الحلقات المفقودة في العالم، بيد أن ذلك لا يعني قياس الفن بمقاييس محددة تتنافى مع ما له من سعة وخصوصية وتجليات كما أن ما كان يعرف قديما بالمجاز البلاغي الذي به يصحح الخرق في التعبير الأدبي، هو نفسه الذي به يصحح الخرق في البناء السردي فيتحول من اللاواقعية واللاطبيعية واللامعقولية إلى سرد واقعي وطبيعي. وإذا كانت البلاغة هي الطريق إلى بلوغ الحقيقة في الشعر، فإنها أيضا طريق إلى بلوغ الحقيقة في السرد، لأن الخيال هو أصل الإبداع، ومن ثم هو أسبق من الواقع ومن محاكاته.

وابتدأ اورباخ في كتابه (محاكاة الواقع كما يتصوره أدب الغرب) من الإغريق وانتهى بواقعية أوغسطين التي وجدها أقرب إلى الطراز الكلاسيكي الشيشروني. ولأن الواقعية هي مقصده، أخذ على بوكاشيو أن قصصه(الديكامرون) توغل في الإشكالي أو المأساوي وأن واقعيته بارعة حين تكون السيطرة على الظواهر طبيعية بصورة كاملة ولكنها تغدو فاترة وسطحية بمجرد التعرض للإشكالي أو المأساوي. وانتهى إلى أن قصصه(ما تزال أكثر اضطرابا وتقلقلا من أن تقدم أساسا يتيح تنظيم العالم في صورة عالم واقعي وتأويله وتصويره) وتتأتى هذه المؤاخذات من حقيقة أن اورباخ لا يجد في قصص بوكاشيو مسوغات النظر إلى الواقعية فقد سار بوكاشيو على تقاليد السرد القديم واتبع القاعدة اللاواقعية. ولهذا أيضا انتقص اورباخ أسلوب التفخيم في القرون الوسطى لأنه غير واقعي يترك انطباعا بالرتابة ولأنه طبقي وغير إنساني وغير كلاسيكي ومتسم على الإطلاق بسمة العصر الوسيط.

وإذا كان اورباخ قد أخذ على بوكاشيو لا واقعية قصصه، فإنه أخذ على انطوان دي لاسال إتباعه تقاليد الروح الفروسية، وانتقص قصته(سيدة القلعة) وأشار إلى حقيقة مهمة بشكل غير مباشر وهو يعرّف بدي لاسال قائلا: (هو فارس ينتمي إلى البروفانس من النموذج الإقطاعي المتأخر.. مات عام 1461.. شارك انطون دي لاسال في صباه في بعثة برتغالية إلى شمالي أفريقيا وكان في معظم الأحيان مع ال انجو في ايطالية وكان على معرفة ببلاط فرنسا وبورجونديا.. اكتشف في هذا الصدد موهبة وميلا إلى القصصي وأشهر أعماله رواية غرامية تربوية هي تاريخ جيهان دي سانتريه الصغير) ففي قوله إن لاسال اكتشف أن عنده موهبة دليلا على أن الموهبة لا تتحفز إلا بمؤثرات، وجدها لاسال في القص العربي السائد في شمال افريقيا فانطلقت أسارير الموهبة لديه تأثرا بتلك القصص.

وتكشف قصة (سيدة القلعة) عن هذا التأثر كونها تتحدث عن مصير آخر حكام غرناطة (عبد الله الصغير) الذي قالت له زوجته: إن هذه هي إرادة الله، فاضطر إلى تسليم القلعة لقائد الحملة الذي حاصرها ووقّع معه اتفاقية تتضمن تسليم القلعة بطريقة سلمية.

وكذلك أخذ اورباخ على رابليه قصته(العالم في فم بانتاجرول) لأنها مغامرة هزلية لم يخترعها، بل هي شائعة شعبيا عن عملاق اسمه جارجنتوا كما أخذ على كتاب(دون كيخوته) أنه خلو من نقد الواقع وتصوير الواقع اليومي. وحين وصل اورباخ إلى عصر النهضة كانت المحصلة مخيبة لآماله إذ(لم يخلف لنا الأدب الإقطاعي في عصر ازدهاره في القرن الثاني عشر شيئا واقعيا وأصيلا جوهريا) وانتعشت آماله بوصوله إلى القرن السادس عشر فلقد وجد(توازنا ثابتا في وجه القوى المتسمة بالفصل الأسلوبي التي كانت تتولد عن محاكاة النزعة الإنسانية في العصر القديم) ليكون مبتدأ الواقعية في القرن التاسع عشر حين صار التصوير الواقعي للحياة ملموسا على أيدي الأدباء الروس الذين(أتيحت لهم بصورة مسبقة إمكانية فهم اليومي بطريقة جدية) وأخرج اورباخ جوجول منهم بحجة أنه لا يكاد يوجد له تأثير في أوربا مع أنه أبو الواقعية الروسية الحديثة بقصتيه (المعطف) 1835 و(النفوس الميتة) 1842.

ويبدو أن تحيز اروباخ للسرد الفرنسي جعله يتخذ هذا الرأي في جوجول وتورجنيف أيضا الذي وجده تلقى أكثر مما أعطى في علاقته بفلوبير ودي جونكور. بهذا الشكل غالى اورباخ ومعه دعاة الواقعية حين أكثروا من المقاييس السنتيمترية وصيروا الفنان تلميذا، عليه تلقي تعليماتهم. ولقد نفر من هذه الواقعية كتاب شقوا عصا الطاعة على النقل الفوتوغرافي وغير الفوتوغرافي للواقع، وانحازوا إلى الخيال الذي لا حدود له مثل بورخس وبروست وجيمس وكافكا ونابوكوف وغيرهم. كما أن نقادا غربيين اهتموا بفك الاشتباك بين الرؤيتين الواقعية واللاواقعية من خلال القول بـ(قوة الوهم الواقعي او الإيهام الواقعي) ومن هؤلاء واين بوث الذي رأى أن السرد يمكن أن يكون مصطنعا وأن لا اتفاق محددا على معنى واقعي يصور الحياة على حقيقتها. وتمنى بوث لو انه كان بإمكان فرجينيا وولف (ان تستحدث طريقة واضحة ومرتبة ولكن أكثر عمقا وإيحاء لا لنقل ما يقوله الناس حسب ولكن لنقل ما لم يقل أيضا). وأطلق على هذا النهج الخيالي في التعامل مع الواقع اسم (السرد غير الموثوق به) وقصد به كل ما(يؤدي إلى تجربة الإرباك من أجل زعزعة ثقتنا بالحياة الواقعية.. والقارئ يبقى في حالة قمعية مقصودة فيما يتصل بالحدود الفاصلة بين الخيال والواقع..) ومثّل على ذلك بقصة (مكان نظيف جيد الإنارة) لهمنغواي فالشخوص تتحدث من دون أن يكون لها الحق في فعل ذلك. وما بين القمعية والهزلية تصبح العدمية درامية ما ورائية ومن ثم تزول أية مشكلة في إدراك الواقع المرئي. فالرواية غير الواقعية عدمية تتضمن جميع أشكال السرد غير الموثوق به، كنوع من الاحتجاج على الواقع وما فيه من قصور وسلبيات ونواقص ينبغي محاربتها أو البحث عن خلاص منها وليس الاستسلام واليأس من وجود حلول لها. وبخلاف ذلك تبقى المشكلة قائمة ولا حل لها وهو ما يشبهه بوث بالعيش ظلما والانتحار اختيارا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram