ستار كاووش
يُعيدُ الكثير من الفنانين -على اختلاف أساليبهم وتقنياتهم- بعض الصياغات والمفردات وحتى التكوينات في رسم لوحاتهم، وهذه المسألة في الغالب لا تتعلق بنضوب الأفكار بقدر تعلقها برؤية الفنان ومعالجاته الاسلوبية التي لا يمكنه الانتهاء منها بلوحة أو لوحتين،
ثم تأتي اللحظة التي ينتقل فيها نحو معالجات أخرى وتقنيات جديدة ومفردات مختلفة. فهناك مراحل معينة يمر بها غالبية الفنانين، وكل مرحلة لها مفرداتها ومناخها ومجموعتها اللونية وحتى تقنيتها الخاصة، لذلك تنتج هذه المرحلة سلسلة متقاربة نوعاً ما من اللوحات، وهكذا حتى يأتي الوقت الذي يكون فيه الفنان مهيئاً للمرحلة القادمة. وهذا ما فعله بيكاسو مثلاً في مراحله الزرقاء والوردية والتكعيبية وغيرها، والأمر ينطبق أيضاً على الكثير من الفنانين الذين ظهروا منذ منتصف القرن التاسع عشر الى هذا اليوم.
يستلهم الفنان مفرداته ومناخات لوحاته على الأرجح، من المحيط الذي يعيش فيه، وحين يتغير هذا المحيط تظهر مفردات وعوامل إلهام جديدة، يمضي معها الفنان في رحلته الابداعية. في النتيجة وفي كل الأحوال على الفنان أن يقدم عملاً فنياً ناجحاً، وهذا هو المهم سواء تكررت لديه بعض المفردات، أو إنتقل بسرعة من أسلوب الى آخر. فمودلياني وشاغال وجياكوميتي مثلاً كل اعمالهم تبدو متشابهة من بداية مسيرتهم الى نهايتها، لكن لا أحد يمكنه إنكار جمال وعبقرية أعمالهم. وفي المقابل هناك فنانين لا يتمسكون بإسلوب محدد ولا بمفردات معينة، وهم ايضاً يقدمون أعمالاً مهمة وفي غاية الجمال. فلا تنطبق معطيات تجربة فنية على معطيات تجربة أخرى، وكل الأعمال الابداعية لها أهميتها، ولا يقلل من هذه الأهمية، القفزات السريعة التي ربما تحدث بين عمل وآخر، ولا حتى ظهور بعض التشابه بين الأعمال.
والمهم هو الطابع الذاتي والشخصي الذي يعكسه الفنان على مجمل أعماله، والنجاح الذي يحققه في صياغاته، وابتكاراته الجمالية وتمكنه من عكس رؤيته على قماشة الرسم، أي إيجاد الطريقة المناسبة لتحويل الصور التي في مخيلته الى أشكال ملموسة على سطوح اللوحات.
حين نثرَ بانكسي رسوماته الكرافيتية على جدران مدينة لندن، أثار الكثير من الاهتمام واللغط، وأيضاً حصل على الكثير من الاعجاب المشوب بالحذر، هو الذي كان يعيد رسم لوحاته في الخفاء، بأدوات متشابهة وتقنيات واحدة لا تتغير، حيث يُثَبِّت أولاً على الجدران بعض قصاصات (الشبلون) أو قصاصات الورق المُفَرَّغة من بعض الأشكال، ثم ينثر عليها رذاذ أصباغ السبريه، فتظهر اشكاله الساحرة والجميلة التي تربطها علاقات غير مُتوقعَة، ومفارقات ذكية ومؤثرة. هكذا كرر كل أشكاله، لكنه مع ذلك إبتكر الجمال الخاص به، مثلما فعلَ قبله الكثير من العباقرة.
عموماً، لو ألقينا نظرة جيدة على مسيرة أي فنان، لرأينا إن كل أعماله تحمل شيئاً مشتركاً، ولمحة واحدة، أو روحية متقاربة حتى وإن اختلفت أساليبها وتقنياتها أو تباعدت السنوات العديدة التي تفصلها. فحين انتقل رينوار من الرسم الواقعي الى الانطباعية بسنواتها العديدة، ثم عاد بعدها لرسم نساءه الواقعيات المكتنزات بألوان متقاربة يطغي عليها اللون البني، فإنك ترى في كل هذه اللوحات شيئاً من روح رينوار لا يمكن أن تخطئه العين، كذلك يمكننا تَتَبُّع موندريان وهو يرسم شجرة التفاح، حيث أمضى سنوات طويلة برسم هذه الشجرة ونقلها شيئاً فشيئاً من الشكل الواقعي الى التجريد الهندسي. وهناك أيضاً أعمال فنسنت فان خوخ التي تحمل كلها لمسته المرتعشة الساحرة، رغم الاختلافات الظاهرية التي بينها. وبهذه المناسبة لا يمكننا نسيان العبقري بيكاسو الذي ترى لمسته المتفردة في كل اعماله على مدى مسيرته التي امتدت سبعين عاماً.
مشكلة الرسم لا تُكمن في تكرار بعض التقنيات والمفردات والتفاصيل، بل هي تتعدى الفنان ذاته في كثير من الأحيان، لتصل الى عدد كبير من المتلقين الذين يطلقون الأحكام دون معرفة ماهية الرسم، لدرجة إن الكثير من مدعي التذوق الفني مثلا، ينحازون بإعجاب كبير الى الكثير من رسومات الكرافيك التي يطبع منها مئات النسخ المتطابقة، لكنهم يشيحون بوجوههم مستنكرين بعض التقنيات التي يكررها الفنان في أعمال فريدة وأصيلة! يمكن للفن أن يشع من كل مكان وزاوية تطؤها أقدامنا، فدعوا الفنان يعمل ويكرر أو يغير أو يتقافز من أسلوب الى آخر، دعوه يمر بأعماله ويقول كلمته، والعمل الفني هو الفصل في النهاية، والجمال لا يمكن أن يكذب أبداً.