د. حسين الهنداوي
جمعنا مساء الخميس (19/10/2023)، حوار ثمين مع عالم الاشوريات وأمين الألواح المسمارية في المتحف البريطاني بلندن،
الدكتور ارفينغ فينكل Irving Finkel العائد للتو من اول زيارة له للعراق حيث كشف لنا عن سروره الغامر لمشاركته في مؤتمر دولي ببغداد بصفته متخصصا في الحضارة العراقية القديمة التي كرس لدراستها معظم حياته، كما زار عدة مواقع اثرية سومرية من بينها زقورة عكركوف التي بناها معبدا للالهة السومريين ملك الكيشين كوريغالزو الأول في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
كان مصدر دهشتنا الأول عظمة تواضع هذا العالم الجليل الذي اصر على المجيء بنفسه ومشيا على القدمين لاستقبالنا عند استعلامات المتحف البريطاني رغم ما يمتلكه من شهرة علمية استثنائية لم ينل مثلها في مجاله احد من قبل اذا استثنينا رائد عالم الآشوريات بالمتحف البريطاني جورج سميث الذي اكتشف وترجم في عام 1872 أول حساب مسماري للطوفان العظيم ممثلا باللوح الحادي عشر لملحمة جلجامش. وبداهة، كانت بهجتنا اكبر عندما اعرب الدكتور فينكل عن اهتمامه بالمحاور التي تناولها كتابنا "الفلسفة البابلية" فيما تناول الحديث مجمل قضايا الفكر العراقي القديم مع وقفة مطولة حول المؤرخ البابلي الكبير بيروسوس (برعوشا) وكتابه الشامل "تاريخ بلاد بابل" المعروف باسم "Babyloniaca" (البابلونيكيا)، الذي صدر بثلاثة اجزاء (في حوالي 272 ق.م)، وأهداه إلى أنطيوخوس الأول وهو مفقود الآن الا اننا نمتلك مقتطفات منه اخذها لاغراضه الخاصة عدد من الكتّاب والمؤرّخين الهيلينستيين ابرزهم جوبا الثاني والكسندر بوليستور وأوسيبيوس ويوسيفوس وغيرهم بينما لا تذكر عنه شيئا مصادرنا العربية والاسلامية.
وكانت مكانة إيرفينغ فينكل العلمية بدأت بالتألق منذ عام 2010 اثر قيامه بترجمة ونشر لوح طيني سومري نادر يشير إلى وجود توجيه عائد للحقبة البابلية الأولى، أي قبل حوالي 4000، ببناء سفينة لمواجهة خطر طوفان مرتقب. وهكذا، وعندما قرر اله الحكمة انّكي (إيا) ان ينقل الى البشر السر الالهي بارسال الطوفان على الارض التي شاخت بالذنوب، توجه بحديث آنو إلى كوخ القصب لأفهام أتراحاسيس او الانسان المعرفة الالهية من من وراء جدار قصب:
"جدار، يا جدار!
جدار القصب، يا جدار القصب!
أتراحاسيس، انتبه لنصيحي،
وقد تعيش إلى الأبد!
اترك منزلك، وقم ببناء قارب
ازدري الممتلكات وانقذ الحياة!
ارسم القارب الذي ستصنعه
على مخطط دائري
ليكن طوله وعرضه متساويين،
واجعل شخصًا آخر يلف السعف وألياف النخيل من أجلك!
وإصبع واحد من القار لأطرافها الخارجية
وإصبع واحد من القار لداخلها.."
هذا جزء من النص الخاص بالسفينة في اللوح الذي ترجمه فينكل الذي لاحظ أيضا ان شكل السفينة فيه يختلف عن سفينة نوح بكونه مستديرا ومشيدا من القصب وحبال ليف النخيل والقير. وهكذا يقودنا الى الاستنتاج بانه لم يكن لبلاد ما بين النهرين قصة واحدة، بل ثلاث قصص طوفان تسبق النسخة التوراتية بألف عام. مع الاستنتاج المنطقي بأن مؤلفي "الكتاب المقدس" استعاروا حكاية طوفان بابلية تشبه تلك الموجودة على هذا اللوح الطيني وعدلوها لانتاج سفينة نوح التوراتية المستطيلة. وبينما كان هذا الصحن العائم مصنوعًا من القصب المربوط بحبال من ليف النخيل ومغطى بالقار، وربما مادة شبيهة بالقطران من اجل العزل المائي، غدا في سفر التكوين من "الكتاب المقدس" كسفينة خشبية تشبه البارجة كي يكون صالحًا للإبحار.
هذه الافكار التي جادل بها فينكل دافع عنها ثم في عام 2014 نشر كتابا عنها بعنوان "السفينة قبل نوح: فك قصة الطوفان" The Ark Before Noah: Decoding the Story of the Flood,، لاقى اصداء عالمية واسعة كشف فيه اولا ان الفلك الموصوف في اللوح الاصلي كان مستديراً مثل قفة كبيرة جدًا، ودعم رأيه بمعلومات تفصيلية وافية عن أبعاد الفلك المذكور وبنيته، وهو ما قام بتوثيقه بفيلم وثائقي تلفزيوني تم انجازه في عام 2014 مسبوقا بدراسة معمقة وقيام فريق خاص من الخبراء بتنفيذ نسخة مصغرة لهذه السفينة في الهند بموجب مواصفات اللوح الطيني بقطر 60 متر وارتفاع 6، كما تم تنفيذ السفينة (القفة) من طابقين لتكون محمية بأمان من الطوفان فيما كان من المفترض، وهذا هو كشفه الثاني، أن تدخل الفلك اثنين من كل الاحياء.
ولد عالم الآشوريات البريطاني إرفينغ فينكل في عام 1951، وهو حاليا مساعد أمين مخطوطات ولغات وثقافات بلاد ما بين النهرين القديمة في قسم الشرق الأوسط بالمتحف البريطاني، متخصصا في الدراسات البابلية والآشورية كما في ترجمة النصوص المسمارية المكتوبة على ألواح طينية والعائدة الى العصور العراقية القديمة.
وكان ارفينغ فينكل حصل على الدكتوراه في علم الآشوريات من جامعة برمنغهام تحت إشراف ويلفريد ج. لامبرت اثر تقديمه أطروحة حول التعاويذ البابلية لطرد الأرواح الشريرة والاشباح، وقد صدرت في كتاب لاحقا. ثم أمضى بعدها ثلاث سنوات كزميل باحث في المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو. وفي عام 1976، عاد إلى المملكة المتحدة، ليتم تعيينه مساعدًا لأمين قسم الآثار لغرب آسيا في المتحف البريطاني، ومسؤولاً عن تنظيم وقراءة وترجمة مجموعة المتحف من الالواح الطينية المسمارية المكونة من حوالي 130.000 متعلقا مع حميمة خاصة بالكتابة المسمارية التي وصفها بانها "جسر سحري لعالم ميت منذ زمن طويل يسكنه رفاق معروفون من البشر".
ومن بين أعماله المهمة الأخرى كتاب "لعبة أور الملكية" Royal Game of Ur وهي لعبة طاولة يبلغ عمرها 4600 أعاد احياءها إلى جانب لعب طاولة بابلية أخرى منسية مؤكدا ان ألعاب الطاولة هي مؤشرات للتقدم البشري مثلها مثل التكنولوجيا. ولفينكل ايضا تعود المبادرة بتأسيس مشروع المذكرات الكبرى، وهو مشروع يهدف للحفاظ على مذكرات الناس العاديين. وساعد في أرشفة أكثر من 2000 يوميات شخصية.
من مؤلفاته كتاب "الأشباح الأولى: أقدم الموروثات" الصادر في 2021، و"السفينة قبل نوح: فك قصة الطوفان" الصادر في 2014، و"ألعاب الطاولة القديمة" لندن 2008، و"مؤتمر ويلكوم للطب البابلي" في 2007، و"تقرير عن لوح صيدا المسماري" الصادر في لبنان في خريف 2006. و"وثائق الطبيب والساحر في سبار، 2005، و"النقوش المسمارية في متحف المتروبوليتان"، نيويورك. (2005). و"عن بعض المرمر البابلي المنقوش" في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية (2002)، و"الكتابة في الحجر" (2018). المدينة المنورة للنشر. ومن افلامه على اليوتوب: "السفينة قبل نوح: مغامرة رائعة"، و"حول فك رموز الكتابة المسمارية"، و"مشروع اليوميات العظيم".
