لطفية الدليمي
لدي ألف سبب لمحاولة النجاة بنفسي والهرب إلى عالم موازٍ يكتنفه الجمال والسلام و أناقة القول الذي تفتقده حياتُنا المصادرة في هذه المنطقة العربية المأزومة والمكرسة للحروب وتسميم حياة البشر، الهرب من واقع أوطاننا التي تتناوبها الكوارث المختلفة التي تتراوح ما بين التشدد الأعمى و التهجير والغزو والدكتاتوريات التقليدية والسلطات الكليبوقراطية (سلطات اللصوصية والجهل).
كان لي ألف مسوّغ لأنتزع نفسي من الزمن الخطيّ وابتكر زمنا موازياً خفيا تتعذر رؤيته او اقتحامه، لكن، من ياترى بوسعه التغافل عن الحروب التي تتقد نيرانها في أرجاء منطقتنا وتمتد من العراق حتى سوريا وفلسطين ولبنان واليمن، حروب تستهدف القيم وذاكرة الثقافة ولاتشبع من التهام الابرياء الذين لايد لهم في كل الحروب التي مرت على هذه البقعة الحزينة، هنا حيث تزدهر السياسات العدوانية وحروب الغزو والاحتلال المشرعن والنهب المبرمج والقتل الذي تبرره البيانات الدولية والتوافقات السرية والمعلنة.
غالباً ما ألوذ بالكتب والموسيقى والغناء، أحتفي حين تحاصرني الاحزان بصوت المطربة الفلسطينية الجميلة إبنة مدينة الناصرة (دلال أبو آمنة) الحاصلة على الدكتوراه في علوم الدماغ وفسيولوجيا الاعصاب والباحثة في التراث الغنائي الفلسطيني والعربي، ألوذ بصوتها الرخيم وهي تغني (حبيبي يسعد أوقاته) أو وهي تردد أغنيتها الصوفية من شعر ابن عربي (أدين بدين الحب...)، أو تنشد (عرفت الهوى مذ عرفت هواكا) لرابعة العدوية، أو وهي تجمع حولها فرقة من الامهات والجدات الرائعات حافظات ذاكرة الشعب وتنشد صحبتهن أغاني الفرح والحب.
غالباً ما كنت أعود إليها وأنتشي بأدائها المشرق لكل أنماط الغناء العربي الكلاسيكي من موشحات الى غناء صوفي وتراث عربي شعبي وغناء طربي. الدكتورة الجميلة دلال أبو آمنة أكتب عنها اليوم بعد أن اعتقلتها سلطات الاحتلال يوم الاثنين 9 اكتوبر2023 في مدينة الناصرة. إشتكت دلال للشرطة من حملة تحريض بالقتل ضدها وضد زوجها وأولادها ونداءات تدعو لها بالموت من قبل مستوطنين لنشرها تدوينة (لاغالب إلا الله) على موقع X ولكن شرطة الاحتلال اعتبرت الشكوى وهذه التدوينة دعماً للارهاب، ولأنها فنانة مشهورة ومؤثرة في وسائل التواصل على الصعيد العربي والعالمي ودكتورة ذات شهرة علمية كبيرة في مجال اختصاصها كان من المهم ارغامها على الصمت وإيقاف نشاطها؛ غير أن الامر لم يمر هكذا فقد تصدى نشطاء ومحامون للقيام بحملة شجاعة لدعمها أدت الى الافراج عنها مع فرض الحبس المنزلي عليها و منعها من النشر على وسائل التواصل بعد أيام من التحقيق معها وتقييد يديها وقدميها وإذلالها وتردي وضعها الصحي إثر قرارها بالاضراب عن الطعام رفضاً للعنف المفرط بحقها.
مطربتنا المثقفة - التي جمعت بين الفن والعلم المتطور - تعمل على تطوير وسيلة تكنولوجية حديثة بواسطة الذكاء الاصطناعي لعلاج أمراض عصبية مزمنة كالتصلب اللويحي المتعدد، ومن جهودها وانجازاتها الفنية انها قامت بجمع وتدوين التراث الغنائي الفلسطيني وتقديمه على المسارح العالمية والعربية، وهي المغنية الرئيسية في الاوركسترا العالمية MESTO وتقدم من خلالها أغاني التراث العربي بمرافقة موسيقيين غربيين وبتوزيع أوركسترالي في كافة أنحاء العالم وقدمت عشرات الحفلات في مدن عالمية وعربية. كتبت دلال على صفحتها في الفيس بوك: (بعد قضاء ثلاثة ايام في الحبس الانفرادي ظلمًا وبهتانًا.. أنا حرّة. حرّة كما كنت وحرّة كما سأبقى دومًا وأبدًا. حاولوا تجريدي من انسانيتي، وإسكات صوتي وإذلالي بكل الطرق، شتموني وكبّلوا يديّ وساقيّ بالقيود، لكنهم بهذا جعلوني أكثر شموخًا وعزة..سيبقى صوتي رسولاً للحب مدافعًا عن الحق في هذه الدنيا.شكرًا لكل من دعمني من كل أنحاء العالم. شكرا لعائلتي واصدقائي).
مبدعتنا الثانية هي الروائية والاكاديمية الفلسطينية (عدنية شبلي) التي تعرضت للعقاب (الاعتباري) من قبل ادارة (معرض فرانكفورت الدولي للكتاب)، الادارة التي أعلنت مسبقاً عن حفل لتكريمها بجائزة عن روايتها (تفصيل ثانوي)، عادت وتراجعت وألغت حفل تكريم الروائية وحجبت الجائزة المخصصة لكتاب آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية واتهمتها بالتهمة الممجوجة والجاهزة دوماً (معاداة السامية) التي تتعامل معها الجهات الالمانية بحساسية شديدة وشعور تاريخي بالذنب بسبب المحارق النازية لليهود. على اثر هذا الالغاء إنسحب اتحاد الناشرين العرب من معرض فرانكفورت وتحدثت صحف عالمية مرموقة عن الواقعة؛ فقد كتبت (صحيفة "لوس أنجلوس تايمز": "في الوقت الذي أصدر فيه معرض فرانكفورت للكتاب بيانًا صريحًا قال فيه إنه يريد تسليط الضوء على الكتابات الإسرائيلية بشكل خاص هذا العام فإنه يغلق المجال أمام الأدب الفلسطيني وبشكل مجحف". بعد واقعة الحجب والالغاء أعلن نحو 600 كاتب من أنحاء العالم تضامنهم مع الروائية عدنية شبلي التي تعرضت للتمييز العنصري في ألمانيا وفي مقدمة المتضامنين كتاب فازوا بنوبل للادب مثل الكاتب التنزاني عبد الرزاق جورنه، والفرنسية آني إرنو، والبولندية أولغا توكارتشوك؛ وآخرين حاصلين على جائزة البوكر؛ مثل: الأيرلندية آن إنرايت والأسترالي ريتشارد فلاناجان والإنجليزي إيان ماكيوان و الكاتبة الكولومبية الفائزة بجائزة "ليتبروم" لعام 2021 بيلار كوينتانا والكندية الفائزة لعام 2015 مادلين ثين.
عدنية شبلي الحاصلة على درجة الدكتوراه من "كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية" في "جامعة شرق لندن" في العام 2009، تعمل في مجال التدريس الجامعي والبحث الأكاديمي وتتنقل في عملها مابين لندن والقدس منذ سنوات عدة وهي معروفة عالمياً بنشاطها الاكاديمي ورواياتها المترجمة.
شخصياً عرفتُ كتابات (عدنية شبلي) المميزة والمختلفة عن السائد في الادب الفلسطيني عندما كنت أقتني اعداد مجلة (الكرمل) الثقافية الرصينة التي كانت تصدر في رام الله، وأعجبت بنصوصها أيّما اعجاب لطراوة لغتها واختزالها و اختلاف موقفها من اللغة والابداع وانشغالاتها الدائمة بموضوع نقد الفكر والمؤسسة الثقافية الرسمية، ولطالما أعلنت انها معنية بما سيؤول إليه وضع بلادها تحت الاحتلال ويؤرقها الخراب الفكري الذي يسود عالمنا اليوم. لم تتوقف عدنية شبلي يوماً عن طرح سؤالها الدائم: كيف يمكن لنا كفلسطينيين أن نساهم بتشكيل فكر نقدي يمكنه مسّ قاعدة شعبية واسعة، ليس في فلسطين فقط وانما في عالمنا العربي على امتداد رقعته الجغرافية وعمق تاريخه وتراثه؟
جميع التعليقات 1
عدي باش
صولة (طوفان الأقصى) .. فضحت زيف دعاوي حقوق الإنسان و الديمقراطية ، التي يتبجح بها الغرب