اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > مُخْتَارَات : أَلْفَارْ آلْتُو

مُخْتَارَات : أَلْفَارْ آلْتُو

نشر في: 22 أكتوبر, 2023: 10:50 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

لا يمكن عدم ذكر اسم "أَلْفَارْ آلْتُو" (1898 -1976)، Alvar Aalto المعمار الفنلندي المعروف، عند الحديث عن ظاهرة "الحداثة المعمارية".

فما انجزه هذا المعمار الرائد من اعمال مبهرة، وما انطوت عليه عمارته المميزة، ذات الخصوصية الواضحة المتسمة بحداثة ذات نكهة محلية جعلت منتجه التصميمي مقدرا ولافتا في عموم المشهد المعماري العالمي وخطابه. فتقصياته الاسلوبية ومقاربته التصميمية كانت دوماً منحازة نحو "الانسان" بكل احتياجاته ومتطلباته، بل واكثر من ذلك، فان تلك التقصيات والمقاربة الاستثنائية التى اوجدها المعمار واختارها لنفسه كانت معنية كثيرا بايجاد ثمة نوع من تناغم وتناسق بين الانسان وبيئته المحيطة بكل خصوصياتها وتقاليدها وتشكيلات ارثها المعماري. هو الذي كان دائم الترديد من ان باعث عمارته يكمن في احترام الانسان، والسعى وراء فهم احتياجاته والتمنى بخلق عمارة لا تكون معاييرها المسبقة تُطّوع الانسان، وإنما العكس يتعين اخضاع العمارة للانسان! ومن هنا تحديدا، يمكن ادراك أهمية وقيمة تلك العمارة المميزة التى اغنت الحداثة واسهمت في تنويعاتها الاسلوبية. لقد كانت فنيّة عمارته وصبغتها المحلية مرتبطة بوشائج قوية مع طبيعة فنلندا القاسية والقاتمة ولكنها الزاخرة، ايضاً، بالتناقضات الحادة.

ولد "أَلْفَارْ آلْتُو" سنة 1898 بمدينة "كوورتاني Kuortane (غرب وسط فنلندا)، ودرس العمارة في الجامعة التكنولوجية بهلسنكي العاصمة وتخرج منها سنة 1923. وصمم عدة مباني بروح الكلاسيكية الوطنية اتساقاً مع المزاج العام وقتذاك السائد في عموم اسكندينافيا. لكنه تحول سريعاً، لاحقاً، عن ذلك النهج عندما اطلع على عمارة الباهوس ونتاج لو كوربوزيه، مكرسا نفسه لمبادئ الحداثة المعمارية، وامسى وفياً لها، ولكن ضمن اجتهاد مهني شخصي عبر اصطفائه لمقاربة خاصة ميزته بوضوح عن الحداثيين الآخرين. وقد تمثلت تلك المقاربة "الآلْتُوية" وتجسدت بمفردات تصميمية محددة ظل "أَلْفَارْ آلْتُو" يكررها ويطور استخداماتها في غالبية المباني التى شيدها لاحقاً، انها وكما كتبت عنه مرة تتمثل في "سيادة اللون الابيض للكتل المصممة، واسلوب الانارة السقفية، ومنح اهتماماً زائداً لوجود مفردة المقياس الانساني، والتوظيف الخلاق لعنصر "الفناء" الوسطي إن كان موقعه خارجياً ام داخلياً ضمن مكونات التصميم المجترح؛ والاهم حضور "الفضاء المنساب" الذي عده <لو كوربوزيه>، من اهم مقومات الحداثة، هو المتمثل لدى "آلْتُو" بتداخل و"انسيابية" الفضاءات في الاحياز المصممة، الواحد في الآخر! وكل ذلك يتعين ان يتم في سلاسة تكوينية، وببساطة تصميمية، تذكرنا في معنى "البساطة" الاسكندينافية المعروفة، التى بات وجودها جزءا لا يتجزا من السلوك الاخلاقي والجمالي لتلك البلدان"!

في اعوام العشرينات والثلاثينات صمم ونفذ "آلْتُو" مشروعين جلبا له الشهرة والتميز، الاول "مكتبة فيبوري" (1927 – 1935)، والاخر: مصح بايميو بالقرب من مدينة "تركو" (1929 -1935)، عمارته التى عدها الناقد المعماري السويسري المعروف "سيغفريد غديون" S. Gidieon افضل ما انتجته الحداثة المعمارية اضافة الى مبنى الباهوس، ومشروع لوكوربوزيه "عصبة الامم". كما نالت تصاميمه المتعددة مثل جناح فنلندا في معرض نيويورك الدولي (1939)، ومبنى بلدية سوناتسالو (1849 -1952)، وبيت الثقافة في هلسنكي (1952 – 1958) وغير ذلك من التصاميم اهتماما عالميا ومنحته الشهرة على نطاق واسع. كما صمم "متحف الفن الحديث" في العوينة ببغداد / العراق (1958)، وكذلك مشروع البريد والبرق في شارع الرشيد (1958) في بغداد ايضا (وكلا المشروعين لم ينفذا). ويعتبر مبنى "قاعة فنلندا" (1962 -1971) من بين المشاريع الاخيرة المهمة قبل وفاته في 1976. ولع "أَلْفَارْ آلْتُو" اضافة الى تصاميمه المعمارية، بتصاميم الاثاث كما مارس تصاميم المشغولات الزجاجية.

معروف بان "أَلْفَارْ آلْتُو" كان بالاساس معماراً مهنياً ومحترفاً، ولم يولِ الجانب النظري اهتماماً كثيراً. بيد ان مقولاته المقتصدة والشحيحة تعبر بوضوح عن آرائه ومعتقداته المهنية، وهي بالتالي جديرة بالاهتمام والاطلاع لجهة التعرف على سيرة هذا المعمار الاستثنائي. وانا اترجمها (عن الروسية) من مصادر مختلفة، ساشير الى مرجعياتها.

نعلم أن عمارة "أَلْفَارْ آلْتُو"، حصلت، وكما نوهنا قبل قليل، على أهمية مضافة، بكونها عُدّت احدى تمثلات المنجز الوطني في منتج عمارة الحداثة العالمية. من هنا تكمن قيمة اطروحة "آلْتُو" وجدارة مفاهيمه تجاه هذة الاشكالية النظرية، التى لم تكن رائجة كثيراوقتذاك، في المشهد المعماري وخطابه عندما تبناها المعمار الفنلندي. نعلم، ايضاً، بان تلك الاشكالية ستتخذ لاحقاً ابعاداً واسعةً في ثيمة جدلية "المحلي مع العالمي"، هي التى بدأت تظهر بوادرها بوضوح في ادبيات النقد المعماري في الستينات كنوع من انواع تجليات <الرفض الهادئ> لمفاهيم "التيار الدولي" ومناصريه الكثر. واعتقد بان ثمة قيمة معرفية لافتة تكتسي مقولات "آلْتُو" ذاته تجاه هذة الاشكالية المفاهيمية نراها نافعة في التعرف عليها من قبل المعمار العربي.وحتى القارئ العربي عموماً!

ولهذا ساسعى وراء اصطفاء بعض آرائه وطرح اقواله فيما يخص هذة الناحية تحديداً. فقد نشرت مجلة المعماريين الفنلنديين Arkkitehti عددا خاصاً مكرساً لثيمة "المحلية والعالمية"، في عددها 7 -8 لسنة 1967 بمناسبة مرور 75 على تأسيس اتحاد المعماريين الفنلنديين. وقد كتب "آلْتُو" مفالا بهذة المناسبة، ونشره في ذلك العدد جنباً الى جنب مقالات لمعماريين فنلنديين آخرين ولمعماريين اجانب ايضا. ادناه مقتطفات من ذلك المقال الآلتوي:

".. ان موضوع عدد المجلة هو "المحلية والعالمية"، ولكن من الصعب بمكان تناول هذة الثيمة بصورة واضحة، عندما يتعلق الامر بالعمارة او الفنون الاخرى القريبة لها. وللوهلة الاولى تبدو المحلية والعالمية امران متضادان، بيد ان الحال ليس هكذا فعلاً. فكل واحد منا ولد في بقعة محددة. ولكن تلك البقعة التى يشرع المرء منها بداياته، تبقى بمثابة احساس مكاني خاص له. بعد ذلك، ربما هو ولد بين اربعة جدران، وبالتالي فان تلك البقعة لا يمكن ان تكون شبيه بالمحلي وإنما بشئ اصغر، ولتكن منطقة او حي حضري. لكن الحياة وعمل الانسان تخرجانه من قيوده المحلية نحو آفاق واسعة، يمكن بها ان تكون المحلية بمنزلة الوطنية، وهذة الاخيرة يمكن لها تكون عالمية. فالتطور، في هذة الحالة، يماثل تدفق الماء وانتشاره. واذا استمرينا على ذات المنوال من التشبيهات، فان التطور لا يمكن ان يكون بدون حدود، فثمة اتصال يجري بين نقطة البداية ونقطة النهاية".

".. وفي الحقيقة، لا جدوى من اللجوء الى هكذا اراء اولية، عندما نتحدث عن الفن. رغم ان ثمة امثلة يمكن ان نجدها بالتاريخ، تتمثل بها المحلية كشكل من اشكال صيرورات العالمية. وهو ما يحدث، عادة، في غالبية الفنون الآخرى، فالتأثيرات النهائية لها مفعول عميق اكثر بكثير من البدايات بيد ان هذا لا يعارض ان تعمل البدايات احياناً يداً بيد مع النهايات".

".. ترتبط العمارة بشكل وبآخر بموضعها، بمعنى انها مرتبطة بوشائج قوية مع ارضها. وبالنسبة اليها (الى العمارة) فان الاهمية القصوى تتمثل بالاخص ليس بمحليتها وانما بطابع البيئة المحيطة، مع انها يمكن لها ان تحصل على استجابات واصداء عالمية متولدة من الاشكال التى تحدثها. وفي كل الاحوال، فان اية نقطة أنطلاق او هدف نهائي هما اتحاد بدائتين اثنتين يحققا نتيجة متوازية وجوهرية في عالم اليوم، الذي من الصعب اجراء تمييز او فصل بين مفهومي المحلية والعالمية".

وفي محاورة مع الناقد السويسري ومنظر عمارة الحداثة "سيغفريد غديون"، نشرت في مجلة المعماريين الفنلديين بمناسبة بلوغ المعمار ستين عاما من عمره. نقتطف منها مايلي:

<.. - "أَلْفَارْ آلْتُو": اذا كان لنا التنبؤ عن حظ العمارة ووصفها عبر طالعها اليوم فانها تختصر بكلمة واحدة: - "سيئة"، وهذا بالطبع امر مفجع ومحزن في آن. ثمة كتل متوازية الاضلاع من الزجاج ومكعبات من المعادن الاصطناعية، استطاع الاصوليون المتأنقون نشرها في المدن الكبرى بدون وازع انساني، جاعلين منها اليوم بمثابة موضة النشاط المبني.

- "سيغفريد غديون":. ولكن توجد، رغم ذلك، ثمة عمارة انسانية!

- "أَلْفَارْ آلْتُو": نعم قد توجد مثل تلك العمارة، ولكن من انباعها انا الوحيد الذي لايزال يحظى بنوع من شعبية في هذا العالم الساذج. والاسوأ في ذلك ان عواقب ذلك ناتجة عن التغييرات في الاتجاه المعاكس، وعمليات البحث الخرقاء غير المبالية عن مواضيع اخرى. ثمة مجمعات سكنية بكتل معمارية مزروعة عمدا، ونمو متنافر من الدوافع التى لا تستجيب للقيم الانسانية الداخلية، ولا لجمال التنوع الطبيعي. في بعض الاحيان يجرى تنظيم احداث تعطي انطباع عن معارض تجارية. وفيها تظهر الشكلية في الابنية العامة الناتجة عن الدعاية الرخيصة في المقام الاول. كما نرى شيوع العاب اطفال مع منحنيات متوترة لا يمكن التحكم بها. وهذا يشم منه "هوليود" ويذكرنا بها

اما الانسان فهو منسي!

.. والعمارة الحقيقية هي تلك التى يغدو الانسان فيها مركز الاهتمام. بكل افراحه.. وتراجيديته ايضاً!">. (المصدر: مجلة Arkkitehti العدد 1 -2 لسنة 1958، ص. 27).

ومن خطبته الملقاة في فيينا، امام اتحاد المعماريين النمساويين سنة 1956، نستل ما يلي:

".. يُعّد حل القضايا المهمة التى تواجه العمارة اليوم، احد الاجراءات العاجلة لاضفاء طابع انساني على العالم، اذ امام المعمار اليومكما الحال دائما، تنبع قضية واقعية هي العلاقة بين الشكل والرسمانية "المونومنتالية" وكل المحاولات التى جرى التعتيم عليها اخفقت وباءت بالفشل. وهذا الامر يشبه الى حد كبير حرمان التعاليم الدينية من فكرة الفردوس السماوية. ومع اننا نعلم بانه لا خلاص بالنسبة الى الانسان الصغير البائس، رغم جهدنا المتنوع، ولكن مع هذا ارى بان المهمة الرئيسية الملقاة على المعمار هي اضفاء الطابع الانساني على عصرنا الآلي ويتعين ان يكون في شكل جديد مختلف. والشكل ذاته هو ظاهرة مبهمة، لا يمكن التكهن بجوهرها، ومع ذلك فان الاشكال بمقدورها بطريقة او باخرى ان تنقل الاحساس بالرضا، وباسلوب مختلف تماما عن اي نشاط خيري عام". (مجلة Baukunst und Werkform العدد 6، لسنة 1956، ص. 298 – 300).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram