ستار كاووش
سارت الأمور بسرعة، وبدلاً من الذهاب جنوباً، قررت هذه المرة السفر شرقاً نحو ألمانيا، لقضاء أسبوع في مدينة هامبورغ التي يختلط فيها التاريخ العريق مع المعاصرة. بدا الأمر سهلاً منذ البداية، حيث إن رحلة القطار من هولندا الـى هناك لا تستغرق سوى أربع ساعات.
هيَّئتُ دفتراً صغيراً، كتبتُ فيه أسماء بعض المتاحف المهمة، إضافة الى بعض التفاصيل والأماكن التي ينبغي عليَّ زيارتها في هذه المدينة التي تستقر مثل تاج على هامة البلد وتغفو على خاصرة نهر إلبا الذي يربطها ببحر الشمال، وتُعَدُّ واحدة من أكبر الموانيء في العالم، وثاني أهم مدينة في ألمانيا بعد برلين. وصل القطار في منتصف الظهيرة، وحين ترجَّلتُ، إنفتحت المحطة الرئيسية أمامي بسقفها المقوس الذي شغلته نوافذ واسعة تسمح بدخول الضوء، فصعدتُ الى الطابق الثاني كي أتابع طريقي للخارج، وهناك توقفتُ أتأمل زحام الناس الذين تدفقوا من كل جانب، حتى بدوا كإنهم قد خرجوا تواً من واحدة من لوحات الرسام لورانس لوري، فيما إنتشرت روائح الوجبات السريعة والقهوة، وتطايرت عطور النساء الجميلات في أرجاء المكان. فسحبتُ حقيبتي خلفي وخرجتُ من البوابة الواسعة، يظللني برج المحطة الكبير الذي إنتصبَ كإنه عملاق يحرس المدينة ويرحب بزائريها.
تأملتُ من الخارج هذه المحطة الضخمة التي بُنيت سنة ١٩٠٠ وتُعتبر أكبر محطة قطار في ألمانيا، والثانية بعد محطة باريس، وفهمت كيف يمكنها إستيعاب نصف مليون مسافر يومياً. صارتْ المحطة خلفي وأنا أسحب خطواتي نحو شارع بريمر، حيث البيت الذي استأجرته من رجل إسمه وولف، والذي رتبتُ معه الأمر وسددتُ الثمن وأنا في هولندا. وقد إخترتُ هذا البيت لقربه من المحطة، التي لا تبعد عنه سوى خمس دقائق مشياً. لا أحب السكن في الفنادق، وعادة ما أفَضِّلُ عند سفري السكن في بيت صغير، فهذا يشعرني بالدفء أكثر ويمنحني حرية ومرونة في الخروج والدخول والحركة.
كان الجو غائماً والمدينة تفتح ذراعيها للقادمين بالقطارات من أماكن متباعدة. ولأني قد تعودتُ على هذه المناخات، فقد حرصتُ أن أحمل معي مظلة دائماً، تحسباً للمطر في مثل هذه المدن الشمالية التي يتغير مناخها بسرعة غير متوقعة كما تتغير أمزجة الفتيات في حانات الليل المزدحمة.
لم ألتقِ صاحب البيت عند وصولي، بسبب إنشغاله ببعض التفاصيل الطارئة، وقد كتب لي رسالة يخبرني فيها بأنه سيضع المفتاح عند مطعم الأكلات السريعة المحاذي للبيت. وعند إقترابي من البيت الذي يقع في حي سانت جورج رأيت كيف إمتلأ المكان بالحياة والحيوية، حيث ينفتح المكان على ساحة (هانسابرونن) الكبيرة والمكتضة بالناس والمطعام والمقاهي والحانات، وقد أحاطتها أشجار الليمون والزيزفون، وتوسطها نصب كبير عبارة عن نافورة دائرية الشكل بإرتفاع خمسة عشرة متراً تقريباً، محاطة بمدرجات شغلها شباب وشابات بدوا من سكان الحي، وتوزعتْ بينهم قناني الجعة وبعض الأكلات السريعة، فيما نام بعض الصعاليك على الرصيف المحاذي للمدرج، وقد إنتصبَ في أعلى النافورة تمثال القديسة هامونيا، كرمز لهامبورغ، فيما انبثق تحتها على الجوانب أربعة تماثيل لشخصيات تاريخية، تحيطهم شعارات النبالة. وفي الأسفل إنبثق الماء من أفواه مجموعة من الأسود التي توزعت على مدار النافورة، لينسابَ نحو حوض حجري ضخم دائري الشكل. وقد أنجز هذا العمل، النحات أنجلبرت بيفر سنة ١٨٧٨، وهو نحات ألماني إشتهر بنحت تماثيل للشخصيات التاريخية، وقد ابتدأ كفنان كلاسيكي ثم صارت أعماله تميل الى الواقعية، ولد في مدينة كولن وتوفي في هامبورغ، وكنت قد شاهدت بعض أعماله في مدينة بريمن. أخذتُ استدارة كاملة حول النافورة على أمل العودة اليها مرة أخرى لمشاهدة التفاصيل أكثر، وتوجهتُ نحو الباب الرمادي للبيت، تاركاً الساحة التي كانت في القرن الثامن عشر مكاناً لتجمع تجار الماشية، بعدها أصبحتْ سوقاً للسمك، وهكذا تغيرت وظيفتها وأهميتها كثيراً مع مرور الوقت، حتى إنتهت الى شكلها الذي وقفتُ أمامه اليوم. وعلى إيقاع صوت عجلات الحقيبة التي تهادت خلفي على الجادة المرصوفة بأحجار غير منتظمة الشكل، صرتُ أردد مع نفسي ياللبداية المذهلة في هذه المدينة التي تمزج بين القوة الجرمانية وحداثة هذه الأيام.