ياسين طه حافظيبدو عنواناً شرِساً وفيه صلابة غير متوقعة. فكيف يُصادَرُ الفعل الثقافي وهو ذو طبيعة غير مادية أصلاً؟ وهل المقصود مصادرةُ الأسس المادية له؟ أم المقصود إتلاف موضوعيته؟ لكن كيف يتم اتلاف هذه الموضوعية؟rn
يمكن تحديد "منطقة" الجواب الناجع اذا استطعنا ان نرسم تخطيطاً للنشوء الاجتماعي للمثقف. ولأجل ذلك نقول: المثقف في واقعنا غالباً ما يكون من أصول فلاحية او من الكسبة. أي هو اصلا منتظرُ جدوى. وهو طبقياً، وفي أحسن أحواله من البورجوازية الصغيرة. وفي هذا تأكيد على ما اشرنا اليه، أي "انتظار الجدوى". نحن لا نريد تصنيفاً طبقياً في زمن تداخل الطبقات، لكنه يبقى عنصراً مُنْتِجاً لا يعتمد رأسمالاً ولا تسنده مؤسسة إنتاجية. توجد مؤسسة مستفيدة منه. فهو اذن "عامل" في ماكنة إنتاجية له منها المتعة المعنوية اما المُنتَج المادي وآثاره، فللمؤسسة المتبنية او المستفيدة، سواء كانت حكومة أو شركة أو أي تنظيم مؤسساتي الأصول.ولذلك تحرص هذه المؤسسات على استمرارية عمله مع زيادة إنتاجيته، وتحسينها بالمعايير التي تحتاجه أهدافها. ولاستكمال ذلك، هي حريصة على ان يكون "طيّعاً" ويتمتع بدينامية تضمن لها استمرار الانتفاع منه لاغراضها.ما يعيقها من ضمان ذلك إمكانية استغنائه عنها. اذن، شرط المثول والعمل ان يكون معتمداً في خبزِهِ وامنهِ على ما يُكَلف به او ما يُرضي الخارج المؤسساتي للتخلص من خطر تلك الإعاقة.بهذا صار هو المحتاج لها، وتحدّدَ طموحُه بما يتيسر منها، أي من هذه المؤسساتية، سياسية كانت او ثقافية، وثقافية هنا تعني سياسية أيضاً ولكن على مدى ابعد.إذن، المثقف مُنْتِج تحت "الحماية" و "تحت الرعاية". معنى ذلك هو منتج ثقافة مُهَدَّد ومُعْوِز الرغبة في الخدمة تجعل من خدمته للمؤسسة حاجة شخصية له، فيواصل التمادي في خدمتها، بزهو وبحماسة أحياناً لضمان حماية اكثر وجدوى مادية اكثر لكنها رسمت جيداً وبدقة مديات الفلك الذي يتحرك فيه. وعدا أساليب البطش او الإسقاط، هي تمارس في الحال الاعتيادي تهديد المتفوّق منهم بالأدنى منه وباستثماره شخصياً للوصول الى هذه النتيجة المضادة له. أي المثقف ضد المثقف! فهو هنا "عامل" جيد يخدم المؤسسة ويؤكد استمرارية الخدمة بالتنافس عليها وأيضاً الإفادة منها... من هنا يبدو "تحرر" المثقف مسألة افتراضية او نسبية فهو عامل خدوم جيد. وهو من ناحية أخرى مستفيد جيد مادام ينال اثمان خبزه وثيابه وأدوات عمله من صاحب العمل او المؤسسة صاحبة العمل او ممن يروج له ولخدمته."واشتباكات" ما يسمى بحرية التعبير هي من نتاج تقاطع المصالح بين ما تراه المؤسسة مجديا وما يراه هو، على الا ننسى ان الجميع الآن يعملون في مشروع واحد من حيث الإطار العام.وهذا لا غيره يفسر لماذا ابقت السلطات، على تنوعها، والمؤسسات، على اختلافها، وعلى مر الأزمنة...، ابقت المثقفين والكتاب والفنانين في حال الاحتياج الدائم. وحتى الذين قد يُحتَج بهم أمثلةً على من اغتنوا، انما حققوا ذلك بان استكملوا التضحية لها، او باعوا انفسهم لها تماماً حتى بدوا من بطانتها. ومع ذلك هم أيضاً ضمن حال الاحتياج الدائم. فواحدهم ظل منتجاً مأجوراً في جوهرهِ. حتى المثقفون الكبار، الصحفيون الكبار، الشعراء الكبار، الفنانون الكبار، أولاء لا ينتهي تطلّعهم لرضا المؤسسات او الى حاجتهم منها: اوراقا نقدية، او حمايةً او جاهاً.هذا المخطط ليس ناشئاً من امر طارئ ولا يخص مزاج حاكم او طبيعته ولا هو من نزوع مؤقت لمؤسسة. هذا ستراتيج متوارث يرمي لان يظل الفكر والابداع والعمل "التنويري" في خدمة المؤسسة او الدولة وهذه بهذا "التصوّر" او "المخطط"، تهيء ممرّاً مغرياً لانسلاخ الكثير من الكتاب المناضلين من صفوفهم النضالية والمفكرين من أفكارهم المناهضة وفلسفاتهم الى حيث "هناء" العيش والفرص الممتعة، احتجاجاً بالفردية واهتماماتها.. ومثلما تعرف المؤسسات ويعرف مالكو الإنتاج طبائع العاملين فيها يعرفون جيداً أيضاً طبائع العاملين في حقول الثقافة والفن ويعرفون ما يجتذبهم من "طعوم".هذا في الجانب النفسي والاجتماعي. اما في حقل التخصص الثقافي فالمثقف يعمل في حقل إبداعه او في حقل تخصصه متناسيا اثناء العمل انه "تابع". الاستقلالية عنده هي الاكثر وضوحا. لذلك هو يواصل تدريباته الثقافية، إبداعية او فكرية، مستندا الى الاجتهاد الفردي في الاكتساب الثقافي والتطور والى التنويع في ابتداع اعماله او في تجديدها او اغنائها، وبمثل هذه الممارسة تكون شخصيته قد اكتسبت تفرداً فيجعل له هذا التفرد قدرةً على الفهم الخاص والرؤية الخاصة والتعامل الخاص مع الأشياء وواقعها في ظل المؤسسة، او في منطقة "شبه الظل".لكن مادامت هذه الحيوية مستمرة، فالتقاطعات مستمرة أيضاً مع المؤسسة ذات الستراتيجيات والمبادئ الثابتة وأيضاً مع المطالب الإنتاجية ثابتة الشروط – بما في ذلك الأجر او الرعاية..وقد جرت محاول
الفعل الثقافي.. مصادرة أم جدوى؟
نشر في: 22 أغسطس, 2010: 05:08 م