طالب عبد العزيز
قبل واقعة النهروان، بين الامام علي والخوارج يقول أحدُهم أبا حمزة الثمالي، الخارجي"لو حلقت رأسَك يا أبا حمزة. فيجيب:" حتى أصبحُ، وأعلم أهي لي أم ليست لي" ضمن هذا الموقف، الذي يقع بين حديِّ الحياة والموت يحار أحدُنا ماذا يكتب! وكيف يكتب، والحرب على ابواب غزة بكل آلتها، وقد تكبر فتدخل علينا بيوتنا، وتأتي بغبارتها على رؤوسنا، قبل أقلامنا وأزرار حواسيبنا، فمرامها هذه المرة أبعد من كل مرام، ونحن على الفرقة والضعف والهوان الذي نحن عليه.
ينبغي علينا تأجيل مواعيد الحب والسهر واستقبال المحبين، ذلك لأنَّ الحرب لن تفرّق بين كاس الماء وكاس النبيذ، ولن تفرّق بين الجسد الحبيب والجسد القتيل، ولن تترك لنا بهجة الذهاب الى المطعم الانيق، حيث يأخذنا أولادنا، فرحين بأول راتب يتقاضونه، ولندع ثيابنا الجديدة في خزائنها، هامدة، إذ لا يليق بنا استقبال الوحوش، بثياب جديدة انيقة، فنحنُ في أثينا جديدة، والبرابرة قادمون لا محالة، وكافافي يؤكد قدموهم هذه المرة، حكامنا يعلمون ذلك، وينتظرونه معنا، لا لأنهم أساؤوا لنا وأذلونا، نحن شعوب الرملة هذه، حسب، بل لأنهم متأكدون بأنهم سفلة وخونة وبائعو أوطان.
كان هولدرين قد قال"الشاعر الحر هو الذي يتطابق مع كينوته". هل يشكُّ أحدنا بأنَّ كينونته سليمة، وعلى ما يرام؟ بل هل نملك كينونةً كما ينبغي، نحن، وبسبب حكامنا، نقع خارج التصنيف في آدميتنا. ثلاثة أرباع القرن مضت، ومازلنا عاجزين عن الشروع بصناعة انسان حقيقي، قادر على تسويق نفسه، بوصفه إرثا حضارياً، وتاريخاً مشرقاً، لأمة كانت العلامة الفارقة في مشرق الشمس ومغيب الظلام، ولم يكتف حكامنا بهذا الفقد، فقد عملوا على تكذيب كل ما كان لنا ذات يوم، بأفعال خسيسة، يندى لها جبين الوجود. يؤسفنا أن نقول بأنَّ كينونتنا لم تتحقق بعرق ولا دين ولا حزب. ثلاثة أرباع القرن والعالم منشغل بنا، نبكي مدناً تضيع، فتضيع أخرى لنبكيها، وهكذا صرنا نراكم مآتمنا وأيدينا داخل قناطر بنادقنا، لا لنقتل العدو إنما ليقتلنا حكامنا.
بعد إبادتهم على يد البيض اعتقد الهنودُ الحمر بأنَّ السحر هو الشيء الوحيد الذي ينقذهم من الفناء. هل بلغنا الاعتقاد بأنَّ الذلَّ والشعرَ والموسيقى والغناء أيضاً هي القادرة على انقاذنا من فنائنا المحتوم؟ ثم ماذا يعني وجودنا في عالم يحتقرنا، يقف ببوارجه أمام سواحلنا، ونكتفي بالبصق عليه؟ يبني أكبر سفاراته على أرضنا ولا نقف على بوابتها متظاهرين؟ في رواية مستر فيرتيجو لبول أوستر يطير والتر، مرتفعاً عن الارض ثلاثة أقدام أول مرة، وتتحقق نبوءة اليهودي، معلمه، فيقول له: تخيّل وأنت تطير لمدة 15 دقيقة، يسأله والتر مثل طائر؟ فيقول اليهودي:" لا، مثل إله. هذه النظرة الامريكية الرأسمالية في السيطرة على العالم.
نحن أمام حواسيبنا المقدسة نفعل ما يشبه رقصة الهندي الاحمر في القرن التاسع عشر بواجهة المستعمرين، نهتز ونرتج بجنون، نكتب ونتمايل في اسطواناتنا المقدسة، وفي افواهنا لبانٌ مرٌّ كثير، نطهّر به عفونة ما يتوجب علينا قوله، وفي أقدامنا حديد غير قابل للكسر، بل لا نجرؤ على كسره، نريد أن نجعل من حروبنا غير محتملة. يورد نجيب المانع كلمة للمعري فيقول على لسانه:" علامة الوقار في جدار الصمت". لا أحد بيننا يريد لرأسه ما أراده الشيخ الثمالي.