علي حسين المرة الأولى التي رأيت فيها محيي الدين زنكنه كانت في يوم من ايام عام 1980 العام الذي بدا فيه صدام يبعثر سنوات العراقيين في حروب مجنونة،كان كما حدثني عنه صديقي جلال وردة، وكما قرأت له،وكما شاهدت مسرحياته، رقيقا بلا مجاملة او مناورة،
ممتلئا بالهم الوطني، مستشرفا المستقبل الذي كان يراه في تلك الأيام ينذر بالخراب، مسكونا بالمسرح الذي لم يفارقه لحظة واحدة حتى آخر أيامه.ظل يتحد ث عن المسرح بحماسة لن أنساها، كنت أتطلع الى ملامحه المحببة الى النفس وهو يحدثني عن آخر قراءاته في المسرح والرواية والفلسفة والسياسة، وكانت كلماته تجسد لي صورة المثقف الذي يحتاج إليه زماننا،وكان صوته يحمل الكثير من الملامح التي كان قد جسدها الطبيب صفوان بطل مسرحيته الشهيرة السؤال الذي ظل للنهاية يقف ضد كل عمل لا أخلاقي و قد ضحى بحياتهِ من أجل تحقيق أهدافه السامية، مؤمنا بان العقل هو حارس الإنسان، وان هزيمة الأمة لا تأتي الا من سلاطين الجور وتخاذل العلماء الذين تلهيهم مغريات الدنيا عن تحسس معاناة الناس.في تلك الأيام كنت قد انتهيت من قراءة رواية محيي الدين (ئاسوس) والتي يروي فيها حكاية إنسان عراقي كردي هُجر من أرضه ومسكنه ووطنه إلى بقعة لا يجد فيها الحياة. ومن خلال رمزية اسم الطير ئاسوس الذي يموت عندما يفقد طبيعته وفيها نلمح المدى الذي تركه فعل التهجير على فكر وحياة هذا الكاتب.كان اتحاد الادباء قد رفض تعضيد الرواية فطبعها زنكنة على نفقته الخاصة وبمساعدة بعض الأصدقاء، ما زلت اتذكر حيرة واصرار أبطالها على مواجهة الواقع وأتلمس مصائرهم وانظر الى وجهه فأتمثل إصراره على مواجهة الطغيان ومقاومة الظلم. ظل المسرح الملجا الذي يفتش فيه محيي الدين زنكنه عن سكينة الروح وملاذه نحو الحرية وسط جو مشحون باهازيج الحروب وقصائد تمجيد القائد الضرورة، فكان المسرح بالنسبة اليه ساحة الممارسة الحرة في مواجهة قوى الطغيان، هكذا وهب حياته لمشروعة الثقافي، وهو ان يؤسس مسرحا يجمع مابين شمول الرؤية وعمقها، وتنوع المعالجة وتعدد مجالاتها، نافذا من المحلي الى الانساني، واصلا الماضي بالحاضر، جامعا بين التجريد الفلسفي والتجسيد الواقعي مازجا الملاحظة العميقة بالسخرية النافذة،متنقلا بين المأساة والملهاة. وبقدر ما كان محيي الدين زنكنه ينطوي في اعمالة المسرحية والروائية على الرغبة في اصلاح الواقع والتي ينطوي عليها كل المبدعين الكبار، الرغبة التي تباعد بين هؤلاء المبدعين وامكانية الاستسلام لسلطة مهما كان جبروتها،كانت هذه الرغبة هي الوجه الاصيل الذي جسد حضور زنكنه مؤكدا من خلالها إصرار المثقف على تحطيم الافكار الجامدة والمقولات التي تحول بين المثقف وممارسة الفعل الذي يسهم في تطوير الواقع المتخلف. وظلت كتاباته تجسيدا للمثقف اليقظ الذي لا يتخلى عن وعيه الذي هو الوجه الاخر لالتزامه الوطني، ولا يتراجع عن تفكيره مهما كانت قسوة التحديات ومهما طال قمع السلطة التي تولت مسرحيات مثل السؤال واليمامة ورؤيا الملك واللعبة الحجرية والخاتم والجراد تعريتها من كل اقنعتها الزائفة. في غياب الصديق محيي الدين زنكنة نؤمن بان قامة من قامات الرجال العظام قد غابت، وان سيف المحارب القديم لم يعد فيه غناء. أبو آزاد ايها المعلم سأفتقد حلاوة صوتك الذي يأتيني عبر الهاتف بين الحين والآخر فيمازحني باعذب الكلمات، وسأشعر حتما بأن ألفة هذا الوطن ترحل عني شيئا فشيئا.
العمود الثامن :في غياب المعلم والصديق
نشر في: 22 أغسطس, 2010: 06:30 م