اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > هل أفل السرد العربي القديم بأفول الأندلس

هل أفل السرد العربي القديم بأفول الأندلس

نشر في: 29 أكتوبر, 2023: 09:44 م

د. نادية هناوي

عرف الأدب العربي القديم حكايات وقصصا بعضها سرد قصصي أصيل، وبعضها الآخر دخيل لكنه تعرّب، وكان لتدوينه أثر في أن يحتل هذا السرد مكانا في الثقافة الرسمية المركزية لما فيه من براعة وأصالة لا تقل عما في الشعر من خيال وعاطفة،

ولكن السرد كان أكثر شعبية وشيوعا داخل القاع التحتي للمجتمع العربي، فتشعبت فيه القصص والحكايات وصارت الواحدة عشرا والعشر مئة والمئة ألفا.

وما بين الثقافتين المركزية والهامشية تطورت شفاهية السرد العربي وكتابيته ودخيله وأصيله، فترسخت تقاليده الأدبية مع ما احتلته الثقافة العربية من مكانة حضارية بين الأمم. فانتشرت تلك التقاليد في الآفاق ومعها طافت القصة العربية بتقاليدها السردية في مختلف الأصقاع التي وصلت إليها تلك الثقافة. وتفاعلت الثقافات المجاورة تأثرا وتأثيرا مع ما تسرب إلى أدبها من هذه التقاليد لأصالتها. وساهم هذا التسرب الفني في صلابة تقاليد السرد العربي ورسوخها مما جعلها أقوى دورا في أية عملية تلاقح ثقافي.

وبسقوط الدولة العربية الإسلامية في بغداد وتراجع الصنعة الشعرية والنقدية، كانت تقاليد السرد المشرقي قد شاعت في بلاد المغرب العربي من حدود حوض البحر المتوسط الى الأندلس التي فيها كانت عمليات النقل والتسرب للثقافة العربية واسعة فانتقلت تقاليد سرد القصص والحكايات المشرقية والمغربية معا، سواء كان هذا الانتقال شفاهيا بالاختلاط اليومي مع أبناء شبه الجزيرة الايبيرية أو كتابيا عبر مخطوطات تمت ترجمتها إلى اللغات القشتالية والاسبانية والايطالية وغيرها. وكان للقاعدة التي هي اللاواقعية أن تبقى ـــ بالنسبة إلى الأمم التي انتقلت إليها تلك التقاليد ـــ المولِّد الذي به صار تطوير التقاليد السردية ممكنا فيما بعد عمليات النقل والترجمة بزمن غير قليل. وما زالت هذه القاعدة مولدة ومحفزة ومساهمة في صناعة السرد إلى يومنا هذا. ولقد التفت إلى ذلك منظرون غربيون فعادوا إلى مرويات قديمة مندثرة لكنهم لم يعتبروها أصل التقاليد، بل عدوها سمة حداثية من سمات السرد المعاصر وصنفوها في خانة الأدب العجائبي والغرائبي.

ولم يكن للأدب العربي أن يرسّخ هذا التقليد إلا بسبب تأثيرات الحكاية الخرافية والأساطير الرافدينية والتطوير الذي مارسه الحكاء العربي عليها، وما كتبه القصاصون العرب من مرويات إخبارية وما ابتكروه من أنواع سردية كالمقامة والنادرة والقصة. بيد أن العامل الحاسم في هذا التطوير يتمثل في ما كان معروفا في العربي من ميل إلى المجاز الذي هو سمة من سمات بلاغة اللغة العربية وركن مهم من أركان الخطاب العربي المتداول واليومي فضلا عن الخطاب الشعري والسردي. وليس المجاز سوى تخييل به يعبر المتكلم بشكل غير معتاد عما هو معتاد. ولم يكن التخييل بالنسبة إلى العربي آتيا من فراغ، بل هي حصيلة تأثر وتفاعل معقدين بلغات حضارات قديمة كانت فيها لا واقعية التعبير عما هو حقيقي وطبيعي أساسية ومتداولة كتركة من تركات الخرافة والأسطورة. فتشكلت بلاغة اللغة العربية وأدبها من هذا الأساس(اللاواقعي) في شكل تشبيهات واستعارات وكنايات وتوريات كانت تترى على لسان العرب والأعراب في البدو والحضر وفيها يجتمع المتوافق مع المتنافر. فلا يومئ العربي إلى ما يريد قوله إلا مجازا وتميزت العربية بهذه المجازية كلغة بليغة تختلف عن سائر اللغات، وبها كان الإعجاز القرآني متحديا العرب أن يأتوا بمثل بلاغته(أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ. قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(سورة هود/ الاية 13)

وفي هذا التحدي دليل على ما كان معتاداً في اللسان العربي من بلاغة عالية أساسها المجاز سواء في الشعر على اختلاف أغراضه أو في سرد الأخبار والتجارب. وبسبب ذلك صارت البلاغة سمة القص، فتبلورت فيها مختلف أساليب البيان والبديع. وما وصل إلينا من مدونات شعرية وقصصية إنما هي حصيلة ذلك التبلور الذي هو في أصل تكونه اللهجي عبارة عن اشتغال مجازي.

ولأهمية المجاز في اللغة العربية وضع عبد القاهر الجرجاني نظرية النظم، فالكلام يغدو بلاغياً من خلال انزياح التعبير عن دلالته المباشرة إلى أخرى غير مباشرة أي مجازية. وهو ما كان يترى على لسان القصاصين وهم يسردون حكاياتهم اللاواقعية بتعبيرات مجازية. ومن كثرة المداومة على الخيالية غدت اللاواقعية أساسا، عليه بُنيت تقاليد السرد العربي. وباستقرار القاعدة غدت التقاليد راسخة فكان أن تشكل قالب القصة العربية ومكوناته: حدث وشخصية وحوار وحبك وزمان ومكان.

وما من غرابة أبدا في أن نجد اللاواقعية حاضرة ومتجسدة في أية قصة أو رسالة أو حكاية أو رحلة أو نادرة أو خبر تاريخي أو كرامة صوفية يكتبها أديب عربي مشرقي أو مغربي، مستعملا فيها السحر والتخريف.

ونقول لا غرابة؛ لأن المجازية هي من صلب الكلام العربي الذي به يعبر الكاتب عن الواقع، وليس كمنحى مقصود منه عدم التصديق أو الشذوذ عن نواميس الطبيعة وتحدي العقل أو تشويق المتلقي وترغيبه. حتى إذا وصلنا إلى نهاية الحكم العربي في الأندلس في حدود القرن الحادي عشر الميلادي كان قالب القصة العربية قد اتضحت معالمه الاجناسية ومعه تحددت تقاليد السرد العربي مشافهة ومكاتبة كما أن حكايات ألف ليلة وليلة كانت قد نُقلت أي تُرجمت إلى اللغة القشتالية أبان الحكم العربي في الاندلس، وظلت مستمرة من بعد ذلك في التناقل الشفاهي والكتابي على أيدي القصاصين الإفرنج شعبيا ورسميا وبحسب لغاتهم إلى أن ترجمها انطوان غالان من اللغة العربية الى اللغة الفرنسية عام 1704 في شكل مطبوع ورقي.

وعلى الرغم من أفول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بسقوط غرناطة، فإن التراث العربي لم يأفل ومعه السرد الذي استمرت عملية (نقل) تقاليده إلى آداب أخرى. وليست(دون كيخوته) و(روبنسون كروزو) سوى مثال من أمثلة كثيرة على ذلك النقل الذي توضحت صوره تدريجيا في أوروبا خلال عصر النهضة وما بعدها، فيها شهدت أوروبا نموا حضاريا بعد اكتشاف الأمريكيتين وتزايد مستعمراتها في الشرق وساهم انتشار التعليم واختراع المطابع في أن تكثر كتب القصص خاصة والكتب الأدبية عامة وصار بإمكان الكاتب أن يطيل في الكتابة القصصية عبر إضفاء الطابع الملحمي على مصائر شخصياته وعرفت في القرن الثامن عشر قصص طويلة سميت (رومان) تتكون عناصرها وطريقة السير في تحبيكها من تقاليد السرد القديم وما ورثته عن قالب القصة العربية.

وعلى الرغم مما حصل من تطور في بناء الرواية من ناحية الطول وتنوع الموضوعات بين الواقعية والرمزية والدينية والفكاهية والتراجيدية والشعبية، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن اللاواقعية هي القاعدة التي عليها أقام السرد الاوروبي الحديث قالب الرواية وتحددت من ثم أبعاده الفنية والموضوعية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram