طالب عبد العزيز
مازالت الطبيعة تشيح بوجهها عن العالم، وعن العراق بخاصة، فقد أطلَّ تشرين الثاني بعنقه علينا، ولم يحمل المطر والبرد معه، والسباخ التي لفظتها الارض مازالت تكبر وتكبر، بانتظار من يقمعها بيده النديّة. الطريق التي تأخذني الى الشارع مازالت بتراب العام الماضي، فهي قترة وغبرة، تذهب وتعود المركبات بها.
سكان المدينة يكرهون المطر، لأنَّ الشوارع والازقة ستصبح طيناً ووحولا، فأعمال شركة الصرف الصحي في غالب ضواحي البصرة لم تكمل بعد، والحفر في كل مكان. يتحدث مواطنو المدينة عن شركات متلكئة، لن أشير لها فهي مما يغضب الادارة المحلية عليّ، امّا انا القابع منذ سبعين في قيعة النخل الصغيرة، فما زلت أنظر بوجه ربِّ السماء مثلما ينظر مريد في وجه شيخه.
أطالع المقاطع الفيديوية التي تبثها بنت الذين، العرافة ليلى عبد اللطيف، فأسعد ببعضها الخاص بالطبيعة. تقول امطار وثلوج وعواصف واعاصير وفياضانات ولا أجد فيها رعباً، فأنا رجل شتوي، مخلوق من طين ديف بماء كثير، وفيه تبن وحلفاء وليف مما اساقط عليَّ بالسنين، بل وأحلم أن تحمل العواصف الموعودة لي من الوحوش ما استطاعت، فالذئاب والافاعي والقطط النمرية والثعالب والسلاحف وغيرها هي مما كان يؤنسني والله، ومما اريده لفقمات روحي البليدات. أما ما تتوعدني العرافة به من جيوش واساطيل وحروب فقد تحقق بعضه، وها هي الحرب قائمة، وتتعاظم، ولاملجِم لها.
في مكتبة الصحراء، عند صاحبها الكتبي، الشاب حمزة عبد الله أمسِ، تصفحتُ كتاباً ضخماً بعنوان عمارة النخل، يتحدث وبالصور الكثيرة عن البيوت المصنوعة من السعف والجريد، في الشرق، لكن، لم تبلغ عناية مؤلفه العراق والبصرة بخاصة، وظل محصوراً في محيط الامارات والاحساء والبحرين ومصر ودول اخرى اقلَّ دراية بزراعة النخل والاهتمام به. حدث ذلك مصادفة مع قيامي ببناء كوخ، من السعف في المساحة المحصورة بالنخل قرب دارة الخطار، فأنا لمن يريد أن يعرف بنّاء أكواخ عتيد أثق بيدي، وأصنع الاعاجيب، ولي دراية فائقة بأدق تفاصيل المشيدات الرخيصة تلك. أسمّي الاخصاص الملتئمة الصغيرة، ما كبر وضاق منها باسمائها، ولو أتيت على ذكر ما يجزُّ ويرزم ويرفع ويقوم ويربط. لأربكتُ معجم كلِّ قارئ لهذه.
يقول ابن عمٍّ لي مشفقاً، وقد رآني على الحال تلك: أجزُّ وأرزم وأرفع وأقوّم وأربط.أينقصك المكان، أتشعر بضيقه عليك؟ وهذا بيتك بغرف كثيرة، وهذا ديوانك مأتى الاهل والابعدين، ومنام المتأخرين من أصدقاء ابنائك، فعلام هذا الكوخ؟ فلا أجيبه. تعرّف العربُ البيتَ بأنهُ مَأْوَى الإِنْسانِ بِاللَّيْلِ، أوكُلُّ ما لَهُ جِدارٌ وسَقْفٌ. لكنني، أجدُ ضيقاً في الطابوق والحجر والاسمنت، هناك شيء ثقيل ينهك الجسد. البيوت الحديثة وإنْ كانت مانعةً ودارئةً عن الشمس والمطر والغبار والوحوش إلا أنها مكلفة على كل ذي نفس وحياة. أنا لا آوي الى البيت إلا إذا اضطرتني الحاجة الى الحاسبة(اللابتوب) والسرير، فالنهار ينقضي تحت نخلة اجمل عندي من انقضائه تحت سقف الكونكريت ذاك، ولولا البعوض الذي ينشط في الليل، لولا جرذان وضفادع ودويبات لأتخذتُ من كوخي الصغير هذا حَضَرَاً ومقاماً لأيامي الباقية.
أيها الربُّ ألقِ علينا من ماء عطفك ما أنت أهل له، وإلا سأظلُّ منتظراً سماء المنجمين في تشرين، مصدقاً نبوءة العرافة الشمطاء تلك. ليلٌ شكسبيريٍّ آخر يطوي اسراره بقلبي ثانية.