اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > الترجمة لغة اللغات

الترجمة لغة اللغات

نشر في: 31 أكتوبر, 2023: 11:24 م

لطفية الدليمي

أتابع - بكثير من التفكّر والاستبصار والمتعة - التنقيبات الثقافية للدكتور (سعد البازعي) – تلك التنقيبات التي نراها شاخصة أمامنا في مقالاته الثرية أو في كتبه العديدة

أحْدَثُ أطروحة ثقافية للبازعي – كما أحسب – هي النظر إلى الفعل الترجمي بحسبانه فعالية من فعاليات النقد الادبي البازعي متخصّصٌ في الادب والنقد الادبي والسياسات الثقافية لذا من الطبيعي أن تكون شواهده التطبيقية في أطروحته مستلّة من عالم الادب وأظنُّ أنّ أطروحته تصلح للتوسّع من عالم النقد الادبي إلى فضاء الثقافة الرحب تماشياً مع المنهج السائد والمرحّب به عالمياً في النظر إلى النقد الادبي من بوّابة الدراسات الثقافية لأسباب فكرية وعملية ناجمة عن تنامي مبحث دراسات النُظُم المشتبكة والمتداخلة معرفياً

*****

تذكّرنا أطروحة البازعي بالكتاب الاخير الذي أصدره الكاتب الكيني الاشهر على الصعيد العالمي نغوغي واثيونغو Ngugi wa Thiong’o الكتاب بعنوان

لغة اللغات تأمّلات في الترجمة

The Language of Languages Reflections on Translation

الكتاب منشور حديثاً (2023) عن دار نشر Seagull وهو في واقعه تجميعة من كلمات ألقاها واثيونغو في مناسبات محدّدة أو تقديمات لكتب له (مثلما فعل في تضمين الكتاب نصّ تقديمه للطبعة الكردية من كتابه إزاحة إستعمار العقل Decolonizing the Mind) أو مقالات متفرّقة له رأى واثيونغو أنّ الفعالية الترجمية تعدُّ العنصر الثقافي الرابط لها

لم يخالف واثيونغو في كتابه هذا وجهات نظره السابقة التي عرضها في كتبه الخاصة بالسياسات الثقافية واللغوية يمكن للقارئ الذي له بعض التمرّس بقراءة واثيونغو أن يحدس هذه الحقيقة من مطالعة عناوين محتويات الكتاب لم يزل واثيونغو مسكوناً بهاجس المؤامرات الكولونيالية كما يبدو أنه لايستطيع طرح أثقال فترة إعتقاله التي قيّدت ذاكرته بقيود ثقيلة جعلتها أسيرة الماضي البعيد. واثيونغو كائن غاطسٌ في الآيديولوجيا دققوا معي في هذا المقطع الذي سأترجمه إلى العربية وهو مستلٌّ من تقديمه للكتاب

" .. الاكثر أهمية من كلّ ماسبق أنّ الترجمة جعلتني أتفكّرُ في علاقات القوّة بين اللغات وحصل أن دوّنتُ بعضاً من هذه الافكار في كتابي المنشور عام 1986 (إزاحة استعمار العقل) في هذا الكتاب كنت أفكّرُ بشأن اللغات الافريقية وعلاقات القوة غير المتكافئة لها مع اللغات الاوربية... توجد طريقتان يمكن من خلالهما للغات والثقافات المختلفة أن ترتبط ببعضها إمّا أن تكون تشكيلاتٍ تراتبية من علاقات القوة غير المتكافئة (الطريقة الامبريالية) أو كشبكة من علاقات الاخذ والعطاء (الطريقة الديمقراطية)... "

أظنُّ أنّ مقاربة واثيونغو في الحقل الترجمي صارت واضحة من غير الحاجة لكثير من التفصيل هو يريد للترجمة أن تكون مَعْبَراً ديمقراطياً بين اللغات والثقافات بكيفية تعمل على تحييد علاقات القوة غير المتكافئة وتجعلها - مع تواتر الزمن - علاقات متّسمة بالتكافؤ والندّية و(الاخذ والعطاء) هنا ننتهي إلى متناقضة منطقية في مقاربة واثيونغو يُفرِدُ واثيونغو للترجمة مكانة أعلى من لغة بذاتها عندما ينعتها (لغة اللغات) ثمّ في الوقت ذاته يدعو مواطنيه الكينيين (والافارقة عموماً) لإعلاء شأن الكتابة بلغاتهم المحلية (أو حتى المناطقية أحياناً) التي لايتعامل بها سوى بضعة ملايين في أحسن الاحوال سنفهم من هذا أنّ واثيونغو يريد للترجمة أن تكون - بالضرورة - جسراً باتجاه واحد من اللغة الاجنبية (الانكليزية مثلاً) إلى واحدة من اللغات الافريقية المحلية إذ مَنْ سيترجم كتاباً صادراً بالانكليزية إلى لغة غيكويو – مثلاً – وهو لايتقن اللغة الانكليزية والعكس كذلك مطروح للمساءلة الجادة مَنْ سيترجم كتاباً مكتوباً بالغيكويو إلى الانكليزية ستبقى كتب الغيكويو محض منتجات محلية هل بهذه المقاربة تتحقق الديمقراطية الترجمية وتفكيك علاقات القوة غير المتكافئة بين اللغات والثقافات بالتأكيد لا

*****

أظنُّ أنّ أغلب القرّاء العرب غير المتخصّصين بالادب أو النظرية النقدية أو الثقافات العالمية لم يسمع بإسم (نغوغي واثيونغو) قبل أن تظهر ترجمة روايته (حبّة قمح) عن دار المأمون العراقية منتصف ثمانينات القرن الماضي لم نكن معتادين حينها على الأسماء الأفريقية الثقيلة على مسامعنا ربما كان تشينوا أتشيبي و وول سوينكا هما الاستثناءان الوحيدان.

عاش واثيونغو حياة بائسة لاتنبئ بما سيكون عليه مستقبله، وقد تحدث الرجل في سلسلة من الكتب عن مذكراته في الطفولة والشباب وكيف إنتهى به الحال من مُعْتَقَل سياسي إلى أستاذ للغة الإنكليزية وآدابها في أعرق الجامعات الأمريكية (ييل نيويورك كاليفورنيا) بالاضافة إلى مذكراته ورواياته كتب واثيونغو كثيراً في ميدان السياسات الثقافية ومن كتبه في هذا الميدان (إزاحة استعمار العقل) المترجم إلى العربية وكذلك كتاب (زحزحة المركز Moving the Center) الذي لم يترجم بعدُ يكادُ المرء يشعرُ عقب قراءة هذه الأعمال أنّ واثيونغو يرى في الأدب– واللغة على وجه التحديد – موضوعاً سياسياً في المقام الأوّل؛ لذا نراه يغالي في تطرفه اللغوي حدّ أنه صار يكتب بلغة غيكويو Gikuyu المحلية الافريقية بل وراح يدعو مواطنيه الافارقة للكتابة بها ونبذ الانكليزية تماماً.

تُذكّرنا راديكالية واثيونغو اللغوية بما حصل في تاريخ سياساتنا الثقافية والتعليمية في منطقتنا العربية فضلاً عن أنها تنطوي على مفارقة لنبدأ بالمفارقة أولاً هل كان واثيونغو سيرتقي إلى ماارتقى إليه لو أنه لم ينلْ تعليماً جامعياً راقياً باللغة الانكليزية؟ هل يطالبُ بحرمان أهل بلده من أن يشقوا طريقهم نحو الجامعات العالمية والاكتفاء بحصيلتهم اللغوية المحلية؟ ماسَقْفُ توقعاتهم المستقبلية لو ظلّوا يتحدثون بلغة الغيكويو ويكتبون بها؟

الحديث عن اللغة الانكليزية باعتبارها بضاعة استعمارية يريد الآخر (المُستعمِر) تسويقها في بلاد الآخرين حديثٌ فاسد ثمّة سببان في الأقلّ يقوّضان رؤية واثيونغو اللغوية المتطرّفة الأوّل يكمنُ في أنّ كلّ ثقافة منعزلة ستذوي مع الزمن ولن يكون بمقدورها التأثر والتأثير في الثقافات الأخرى هذا قانون ثقافي مثلما هو قانون بيولوجي العزلة مقتلة الثقافة ودفنٌ للغة في مدفن مهجور أما السبب الثاني فبراغماتي محضٌ الانكليزية هي لغة العالم في قطاعات العلم والمال والاقتصاد والسياسة والطب،،،، فهل تريدُ مقاطعة هذه اللغة تحت ذريعة النقاء اللغوي ومحاربة السياسات الكولونيالية والحفاظ على الموروث المحلي من الاندثار والضياع

سيكون من المفيد دوماً مقارنة حالنا مع الهند ظلّت الهند – مثل مناطق شاسعة من الجغرافية الافريقية - تحت السيطرة الكولونيالية البريطانية لكنّ الهند تعاملت مع البريطانيين بمنطق براغماتي بعيد عن الشعاراتية الفضفاضة التي لاتشبعُ جائعاً صارت اللغة الانكليزية هي اللغة الرسمية السائدة في الهند وترتّب على ذلك إنصهار القوميات الهندية المتعددة في أتون وحدة لغوية مقبولة لاتعلي شأن قومية على أخرى ماذا كانت النتيجة؟ صار الهندي يتقنُ الانكليزية إلى حدود مقبولة عالمياً بل صار مفهوم (الانكليزية الهندية) المقترنة بلكنة محببة وهزّة مميّزة في الرقبة ماركة مسجّلة بإسم الهنود الذين إختزلوا كثيراً من الجهد والزمن في إختراق أرقى المؤسسات الطبية والعلمية والتقنية العالمية وهاهم اليوم يتسيّدون قطاعات كبرى في (وادي السليكون) وأعاظم الشركات التقنية على مستوى العالم الأمر ذاته حصل مع سنغافورة أيام كانت فقيرة مهملة في قاع القارة الآسيوية وهاهي اليوم تحوز المرتبة الأولى في الدخل الفردي العالمي أما كينيا التي تعلّم فيها واثيونغو الانكليزية في صباه وشبابه فلا مكان لها اليوم على الخريطة العالمية بالقياس مع الهند وسنغافورة ثم يطلب واثيونغو أن يكتب أبناؤها بلغتهم المحلية وينبذوا الانكليزية هل يريد لهم أن يصبحوا أكثر هامشية عمّا هم عليه؟

من يخافُ على لغته من غزو لغوي افتراضي هو كمن يخافُ أن يطلق أولاده ليعيشوا في خضمّ العالم يريدهم أن يجلسوا قبالته وحسب من إعتاد الاتقان في عمله سيتقنُ كلّ شيء من يتقنُ الانكليزية سيتقنُ العربية وسواها من اللغات - لو شاء ذلك - دققوا في جمال العربية التي كتب بها أكابر المترجمين العرب وأعاظم من أتقنوا الانكليزية وكتبوا بها فهذا الجمال اللغوي هو شاهدة مؤكّدة على رفعة خزينهم اللغوي من لغات عربية وانكليزية وسواها

*****

أظنُّ أنّ الخلاصة المكثّفة هي التالية لو بقينا نتعامل مع المواريث الكولونيالية بعقل آيديولوجي مغلق لايستطيع كسر أغلاله الذهنية ولايفهم اعتبارات التعامل العملي مع الوقائع العالمية المستجدّة على صعيد الثقافة وسواها فسنظلُّ أسرى الماضي البعيد عاجزين عن الفعل الخلّاق المتطلّع إلى مستقبل مفتوح لكلّ الرؤى والامكانيات غير المقيّدة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram