لطفية الدليمي
أظنُّ أنّ كثيرين لم يسمعوا بإسم الجنرال ليزلي غروفز Leslie Groves، ومَنْ سمعوا به لم يقرأوا عنه بل جاءت معرفتهم به عبر البوّابة السينمائية.
كلّ فلم سينمائي تناول – أو سيتناولُ – مشروع مانهاتن وقصّة تصنيع القنبلة الذرية الاولى لايمكن أن يتغافل إسم الجنرال غروفز. في أحدث فلم للمخرج كريستوفر نولان والذي عنوانه العريض كلمة واحدة: (أوبنهايمر) ثمّة مساحة عريضة أفردها المخرج للجنرال غروفز الذي لعب دوره الممثل المعروف مات ديمون. في كلّ الافلام الخاصة بمشروع مانهاتن أو التي يكون للقنبلة الذرية طرفٌ فيها يظهر غروفز شخصية صارمة دقيقة متقيّدة بالجداول الزمنية ولاتقبلُ بغير معرفة كلّ التفاصيل الفنية واللوجستية. كان – باختصار – دكتاتوراً في ميدان عمله. هل تتصوّرون أنّ دكتاتوريته بلغت حدّاً دفع الجنرال مارشال رئيس الاركان الامريكي لتوجيه كتاب توبيخ له لأنّه أطلق تصريحات ليست من صلاحياته والحربُ العالمية الثانية في أوج أطوارها المميتة؟ لكن برغم ذلك كان الجنرال غروفز يُعدُّ حمامة وديعة بالمقارنة مع زملائه الجنرالات الامريكان، ولعلّ وداعته (المفترضة!) هي التي دفعت الجيش الامريكي لإختياره مسؤولاً عسكرياً عن مشروع مانهاتن الذي ضمّ عشراتٍ من أكابر علماء العالم في الفيزياء والهندسة، وهؤلاء بالطبع لن يستأنسوا التعامل مع جنرال لايعرف سوى الغطرسة العسكرية. هذا الجنرال (الذي يجيد لعبة التعامل مع علماء ذوي ياقات بيضاء!! وفي الوقت ذاته يمارس سلطته العسكرية في توازن دقيق بارع) كتب في مذكراته التي نشرها عن عمله في مشروع مانهاتن عام 1956 أنه كان يستقبل كلّ وافد جديد من أكابر العلماء بترحيب مبالغ به، ثمّ كان يسرّه بكلمات محدّدة صارمة: بروفسور، ستكون موضع ثقتنا في هذا المشروع وإن كانت كلّ إتصالاتك ستوضعُ تحت المراقبة المباشرة؛ لكن تذكّرْ أنك لو سرّبت أية معلومة لأعدائنا فسأحرصُ بنفسي على سيسوّغ كثيرون هذه الدكتاتورية بأنها ضرورة مفروضة في زمن الحرب؛ لكنّ أزمان السلم لاتختلف كثيراً عن أزمان الحرب؛ الفارق الوحيد هو أنّ أزمنة الحرب تقترن بدكتاتورية خشنة معلنة بقصد إيقاع أعظم قدر من الرهبة في المناوئين والمعارضين؛ أما دكتاتورية أزمنة السلم فملساء ناعمة كما الافعى التي تنسلّ بين أكوام التبن.
الديمقراطية ليست نفياً موضوعياً للدكتاتورية. هي نفيٌ للدكتاتورية الخشنة والمعلنة. ثمّ أنّ الديمقراطية هي أقلّ أشكال الحكم السيئ سوءاً (تبعاً للمقولة المنسوبة إلى تشرشل) وليست القمّة المرتجاة في نمط الحكم، والدكتاتورية متعشقة فيها كما الروح في البدن الحي.
كلّ سلطة تنطوي على دكتاتورية مضمرة أو معلنة. هذا إقتران شرطي لامفرّ منه. كيف تمارس السلطة أدوارها المرسومة لها؟ عبر القانون. وماالقانون؟ أليس دكتاتورية؟ أنت ترتضي – عبر مدوّنة قانونية إسمها الدستور – التنازل عن بعض حريتك نظير الحفاظ على أمنك وممتلكاتك من أن تكون عرضة للإفتئات أو التعدّي أو الاستلاب من قبل آخرين. لاوجود لديمقراطية متفلتة من قانون؛ وبالتالي لاوجود لديمقراطية تخلو من بعض قبضة دكتاتورية مرغوب بها.
كلّ شيء في الغرب – على العكس من بلادنا – محسوب بقانون، وثمّة دكتاتورية مضمرة تبسط ذراعها الثقيل؛ لكنّ الغربيين أشطر منّا. عرفوا كيف يجعلون الدكتاتورية (وهي دكتاتورية القانون مع قدر محسوب من دكتاتورية بعض الافراد) تتسلّل إلى الفضاء العام من غير إستعراضات قبيحة مستهجنة. رئيس الولايات المتحدة الامريكية هو الدكتاتور الاكبر على مستوى العالم إذا حسبنا الامور بمنطق عناصر القوة (الناعمة والخشنة) التي يتيح له القانون إستخدامها، والولايات المتحدة الامريكية نفسها هي المثال الأجلى للدولة الدكتاتورية ذات الصبغة العالمية. تعاقب من تشاء بغير حساب، وتجزل العطاء لمن تشاء بغير حساب أيضاً.
البعضُ من دكتاتوريينا العرب – ومعهم ثلّة من دكتاتوريي الشرق الاوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب شرق أسيا – غشماء تعوزهم النزاهة بالقياس إلى الدكتاتوريين في الربوع المحكومة بالسياقات الديمقراطية. غشماء لأنّهم يبالغون في مدّ أذرع دكتاتوريتهم الثقيلة إلى أدقّ تفاصيل حياة الناس (حتى إلى مخادع النوم!!) حدّ أن يجعلوا هؤلاء يكفرون بهم ويتمنّون زوالهم، ثمّ بعد زوالهم يكتشف الناس أسرار اللعبة التي إنطلت عليهم. سيعرفون أنّهم قايضوا أمن وسلامة بلدانهم بديمقراطية شكلانية لاتفيدهم ولاتخدم تطلعاتهم. هؤلاء الدكتاتوريون قد يحكمون بالاعدام على من تجرّأ وقال نكتة عنهم. هذه المبالغة في الممنوعات والمحظورات تجعل الناس تكفر بهم. ليس مَنْ يطيق العيش تحت ثقل هذا الجو الخانق المتعفّن بأدران الكاريزما النرجسية. تُنْشَرُ عنهم الرسوم الكاريكاتيرية في الصحف الاجنبية ولايستطيعون فعل أي شيء؛ لكن على أبناء جلدتهم لايتورّعون عن إيقاع أشدّ أشكال العقاب. هل هذه الافعال تنطوي على أدنى درجات النزاهة المفترضة في كائن آدمي صار حاكماً يُحْكَمُ بإسمه؟ أما الجانب الخاص بإفتقاد النزاهة فلأنّ هؤلاء الدكتاتوريين يسترجلون على أبناء جلدتهم حسب؛ أما خارج النطاق المحكوم بسلطتهم فيستحيلون كائنات محتقرة لاوزن لها.
الدكتاتورية الذكية لها شروطها. أولاً: يجب أن تكون دكتاتورية القانون لادكتاتورية الشخوص. ثانياً: يجب أن تكون ناعمة غير مرئية ولامحسوسة ولايد ثقيلة لها على الناس. شيء أقرب إلى كامرات المراقبة في الشوارع: أنت لاتراها وهي تراك دوماً وتحصي عليك كل أفعالك.
العلم – وذراعه التقنية – صار يُستخدمُ في كلّ المواضع من قبل الافراد والحكومات، وقد ساعد الحكومات في تليين دكتاتوريتها وجَعَلَها أكثر نعومة وقدرة على التسلّل إلى أماكن معيشنا اليومي. صرنا رغماً عنّا محكومين بدكتاتورية الخوارزميات. تكتبُ عن المقتلة الغزّاوية والمعاناة الرهيبة للغزّاويين فلايلقى منشورك سوى بضعة لايكات، وقد تكون ذا حظّ لو حظيت بتعليق يتيم أو تعليقين في أقصى الحالات. أنشُرْ عن (بريتني سبيرز) أو أحدث خصام بين مطربتين عربيتيْن سيحلّق عدّاد القراءات واللايكات. تدققُ في منشورك وتخاطب نفسك: ماذا تريد هذه الخوارزميات الفيسبوكية؟ ولمصلحة من تعمل؟
صارت أصواتُ بعضنا صرخات في برية موحشة، لايسمعك فيها أحد. أتخيلُ القيّمين على تخليق مثل هذه الخوارزميات سيجيبونك عن تساؤلاتك: أشكرْ ربّك مليون مرّة وقبّل يديك وجهاً وقفا. ماذا فعلنا لكي ننال كلّ غضبك؟ نحن نحجب صوتك فحسب. أليس هذا أفضل ممّا قد يصنعه دكتاتوريون لايجيدون سوى لغة الدماء؟ لعلّ هؤلاء (التقنيين الرقميين) يتغافلون عن حقيقة أنّ الغضب المكتوم في الصدور ماهو إلا موت مؤجّل.
قد تخنق الخوارزميات الدكتاتورية أصوات البعض منّا؛ لكنْ أوقنُ أنْ حتى الهمسات الخارجة من قلب موجوع لها مفاعيل في تحديد مخرجات أية حالة صراعية فيها إستخدامٌ مفرط للعنف وأدوات القتل بدم بارد. هذا شكل من الايمان الميتافيزيقي. نعم بالتأكيد. ولكن متى كان من الممكن إسقاط القيمة الميتافيزيقية في الحياة من الحساب وإرجاع كلّ شيء إلى حسابات مادية إختزالية باردة؟
كلّما أحسستُ بمظلمة واقعة على فرد ما أو شعب ما، وكلّما تزايدت مناسيب الغيظ في القلب أراني أندفعُ إلى سماع الترنيمة الفيروزية (أؤمنُ). حينها تلفّني السكينة ويعمرُ قلبي هدوء عجيب:
أؤمن أنْ خلفَ الحباتِ الوادِعاتِ تزهو جنات
أؤمن انْ خلفَ الليل العاتي الأمواجِ يعلو سراج
أؤمن أنَ القلبَ المُلقى في الأحزان يلقى الحنان
كُلي إيمان.. ايمان.. إيمان
أؤمن أنْ خلفَ الريحِ الهوجاءِ شِفاهْ.. تتلو الصلاهْ
أؤمن أنْ في صمتِ الكونِ المُقفلِ.. مَنْ يصغي لي
إنّي إذ ترنو عينايَ للسماء تصفو الأضواء
تعلو الألحان.. كُلي إيمان.. إيمان.. إيمان