ستار كاووش
الى أستاذي المعماري د. خالد السلطاني
فيما أنا أتجول فى مدينة هامبورغ، تذكرت تذكرتُ صديقي بيرتوس الذي قال لي قبل سفري (لا تنسَ أن تزور مدينة المسامير)، وهذه التسمية يطلقها الهولنديون على مجمع المستودعات النادرة في مدينة هامبورغ، وذلك يعود الى إن كلمة (مستودع) الألمانية مشابهة لكلمة (مسمار) الهولندية.
في طريقي الى هذا المجمع الذي يتحدث عنه جميع مُحبي العمارة، استقبلتني بناية ضخمة مكعبة الشكل وبأربعة عشر طابقاً، وحين قرأت اليافطة الحمراء التي كتبت في الأعلى، تبينَ لي إنها بناية مجلة دير شبيغل (المرآة) الأسبوعية الشهيرة التي يعرفها القاصي والداني، وقفتْ أمام البناية التي أحاطتها المياة، بلونها الأبيض ونوافذها الرمادية، حتى خلتُ واجهتها واحدة من صفحات المجلة كإنها قد إنفتحت في الهواء الطلق. أكملتُ طريقي نحو مجمعات الميناء الضخمة التي بُنيت بالطابوق الأحمر، وتمتد لأكثر من كيلومتر ونصف، وتُعتبر إحدى عجائب المدينة التي تتفاخر بها. كان عليَّ قضاء يوماً كاملاً بين هذه البنايات التي لا يوجد لها مثيل في كل العالم والتي تعتبر من ضمن تراث اليونيسكو، لأهميتها وتفردها والمساحة الواسعة التي تغطيها، حيث لا يوجد في كل العالم بناء متصل ومتكامل، بهذا الحجم المهول. تنقلتُ بين هذه البنايات وعبرتُ الكثير من الجسور والقناطر التي شيدت للربط بينها. انها أعجوبة معمارية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث تصطف هذه البنايات كإنها بيوت كارتونية ليس لها نهاية.
لكن ما حكاية هذه المستودعات ولماذا تحمل كل هذه الأهمية؟ في بداية جولتي بدت لي هذه البنايات إعتيادية وليس فيها ما يجعلها تأخذ هذه المكانة والسمعة والإهتمام، لكن ما أن مضيتُ بين جوانبها ووقفتُ أمام السحر الذي تركه الطابوق الأحمر، ثم تحسستُ هذه الجدران العالية التي تحمل الكثير من الأناقة والأصالة والتفرد، ثم كل هذه الوفرة والامتداد والتأثير الطاغي للونِ البنايات التي أخذت شكلاً موحداً ولوناً دافئاً، حتى عرفت القيمة المعمارية والجمالية والتاريخية لها. يالجمال الحجم المهيب والطاغي، وياللَّون الذي أخذ شكله من لون الطابوق الأحمر الساحر. أمضي بين البنايات وأسير بمحاذاة مقاهٍ ومسارح صغيرة وأماكن تُقدم عروضاً متنوعة للأطفال والكبار، من هنا تتسرب رائحة القهوة، ومن هناك يطل طابور لدخول إحدى الفعاليات الفنية. كل الاعمار تراها هنا بين جدران الطابوق، ووسط كل ذلك انشغل السائحون بتصوير جوانب وتفاصيل المكان، حتى إن بعض اليابانيون بدو كإنهم يلتقطون صوراً لكل طابوقة وتفصيل وملمح، لا يلوون على شيء وهم منشغلون بتحريك كاميراتهم أمام كل حاجز وجدار وقنطرة.
تم بناء هذا المجمع بين عامي ١٨٨٣ و ١٩٢٧ على مجموعة من الجزر الصغيرة التي في نهر ألبه، ليستخدم كمستودعات تخزين تابعة لميناء هامبورغ الذي يعتبر واحداً من أهم موانيء أوروبا، ويتصل المجمع بباقي المدينة من خلال ثمانية جسور. وقبلَ الشروع بتشييدالمكان، كان لابد من إخلاء المنطقة، وبهذا توجبَ نقل عشرين ألف ساكن الى مناطق جديدة، كي يتم البناء. وقد صمم هذه المستودعات المهندسان المعماريان كارل كريستيان وأندرياس ماير، بطريقة الاسلوب القوطي الجديد، وإضافة الى الطابوق الأحمر، أُدخلَ خشب البلوط في البناء أيضاً، كذلك شيدت مجموعة من الأبراج الصغيرة فوق المباني، وأخذت بعض الزخارف أماكنها على بعض الواجهات. عدد البنايات الرئيسية لهذا المجمع، خمسة عشر بناء، وتبلغ مساحتها الاجمالية ثلاثمائة ألف متر مربع، وتربطها شبكة من القنوات المائية، وبذلك تعتبر أكبر مجمع تخزين موانيء في العالم.
لقد دُمِرَ جزء كبير من هذا المجمع أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن المدينة أعادت بناء وترميم ما تحطم من جديد، لتبقى هذه (المدينة) الصغيرة التي وسط هامبورغ شاهد على جمال العمارة وقوة الانسان وسحر الطابوق الذي تحول هنا الى أجمل من الذهب. في نهاية الجولة قرب ميناء هامبورغ، وقبل أن أنعطف وسط البوليفار العريض المزدحم بالناس الذين يتابعون أشرعة السفن التي تماهت بين الضباب، توقفتُ أمام آخر بناية من مستودعات الميناء، كانت منعزلة وتحيطها المياة من جانبين. كانت واحدة من أجمل البنايات التي شاهدتها هنا، بل ربما أجملها جميعاً، بدت كإنها بيتاً لأحد أفلام المغامرات التاريخية، أو قلعة يسكنها بعض شخصيات القصص الخرافية، وحين إقتربتُ من هذا البيت الساحر، فاجئتني اليافطة المثبتة على الواجهة، والتي كتب عليها (مركز الشرطة)، نعم لقد تحولت هذه البنايج الجميلة الى مركز شرطة هامبورغ ، ياإلهي، هل يوجد مركز شرطة بهذا الجمال في العالم؟ نظرت الى البيت من جديد وتساءلت مع نفسي مرة أخرى ، اذا كان هذا المكان الساحر هو مركزاً لشرطة المدينة، فكيف يمكن أن يكون نوع المخالفات هنا؟ أفراد الشرطة الذين يقضون يومهم في مكان جميل وساحر كهذا، هم الذين يعكسون روح الهدوء الذي يعم المدينة.