اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > ( المنازل السردية ).. قراءة في رواية ( منازل العطراني لجمال العتابي )

( المنازل السردية ).. قراءة في رواية ( منازل العطراني لجمال العتابي )

نشر في: 7 نوفمبر, 2023: 10:26 م

أحمد الزبيدي

ما كان ( باختين) متبطرًا حين عرّف الرواية بأنها:( الجنس الأدبي الوحيد الذي مازال مستمرًا في التطور ولم تكتمل كل ملامحه.. )

فهي عالم اخطبوطي منفتح على الأجناس كلها، وبناء هرمي لا يصغي كثيرًا إلى قوانين السرد وتقاليده وأكبر من أن ترسم له حدوده الجغرافية سواء على المستوى الموضوعي أم الفني.. ولكن عن أيّ رواية أتحدث؟ ربما _ وبشيء من الحذر _ أعني ( الرواية السيرية ) أو ( السير ذاتية ) كما اسماها المعجم الاصطلاحي، وهي _ باختصار _ ( جميع النصوص التخييلية التي قد يجد قارئها أسبابًا تدفعه إلى الارتياب في وجود تطابق بين الشخصية والمؤلف) وفيه يتحفّز التلقي المزدوج ما بين : التخييلي الروائي بالمرجعي السير ذاتي، ولا يعني ذلك أن الرواية هي ( سيرة ذاتية )، إذ لا يتوافر فيها التطابق الكلي بين الراوي وشخصية المؤلف؛ ولا شك في أنها تستثمر ( المتن الحكائي) الواقعي ليكون المادة الخام التي ينسج منها الكاتب ( المبنى الحكائي ) الذي تتحقق به فاعلية ( الميثاق الروائي ) من دون أن يصرّح به الكاتب، و لا يلزم به قارئه، ويتضمن عدم التطابق بين المؤلف والراوي والشخصية الرئيسة، يحققها عدم حمل المؤلف والشخصية اسم العلم نفسه، وكذلك إثبات المؤلف صلة نصه بالتخييل عبر التحديد الإجناسي ( رواية ).

وأكاد أجزم أن ما تقدم ذكره ينطبق على ( منازل العطراني) ذات البوح السيري عن ( عائلة ) شهدت التحولات السياسية في عراق ( الحاكم الواحد ) حتى نهايته مع نهايات القرن العشرين، تتكون العائلة من : محمد الخلف ( الأب ) وزهرة ( الأم ) والأبناء : خالد وأخوته التسعة.. وتتكوّن الرواية من طرفين رئيسين، الأول ( الفرد/ محمد الخلف ) والآخر ( الجماعة / العائلة )، الأول هو المؤدلج المنتمي والآخر هو اللامنتمي !.. ولا يتوقف الآخر على العائلة وحدها، بل يتسرب إليها أقارب العائلة وخاصة في المشاهد السردية الأولى حتى المشهد الثالث والعشرين. ولكن مَنْ محمد الخلف ؟ إنه معلم جنوبي انتمى للحزب الشيوعي حاله حال أغلب المعلمين في الفترة الملكية والجمهورية القاسمية، جنوبي الأصل من الناصرية، تنقل _ بحكم الوظيفة_ إلى محافظات عدة : الناصرية والسماوة وبغداد.. هذا ما أخبرنا به المتن الحكائي أما مبناه فقد انطلق من لحظة هروبه من السجن أيام نهاية عبد الكريم قاسم وانقلاب القوميين وسحق الشيوعيين.. ومن هنا يبدأ الصراع من أجل البقاء؛ صراع الفرد مع السلطة وصراع العائلة مع الفضاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. إنها سيرة العطراني : الشيوعي والأب والمعلم ، وأبنائه العشرة.. وأما الشخصيات الرئيسة في الرواية فهي : محمد الخلف ( الأب )، وخالد ( الابن الأكبر ) و زهرة ( الزوجة )

يتوزع الفضاء المكاني للعمل بين فضائين رئيسين، على مستوى الحدث وحركة الشخصية، هما : العطرانية ، وبغداد. ليشكلا فضائين مختلفين متضادين؛ فالأول ( إيجابي) يمثل ( المأوى ) والملاذ لمحمد الخلف والآخر ( سلبي ) فهو المراقب والراصد لحركاته وحركات ابنائه.. وحين أصف المكان الأول إيجابيا هذا لا يعني على المستوى الطبيعي أو الجغرافي لكونه ريفيا تقل فيه أعين السلطة الرقابية فحسب، بل أعني المستوى الاجتماعي أيضًا ؛ فعلى الرغم من أن البطل مطارد من سلطة وحشية تريد أن تظفر به وبرفاقه الهاربين، وهذا ما يدعوه إلى الحذر الشديد والخوف والترقب والترصد؛ ولكنه كان يثق _ تماما_ بأقربائه بغض النظر عن درجة القرابة وبعدها فـ ( نوار الناهض، وتينة، وزامل، وجبر، وناصر، ، وعباس، ورضية، وشكرية، وخيون، ودلف، وحميد أبو عنان، وحسين الكركوش.. ) هم شخصيات مختلفة ومتنوعة ينتمون إلى الفضاء الجنوبي القروي، ويمثلون بعدًا إيجابيًا جماعيًا، للفرد الحزبي الهارب، الذي يقتضي عمله السياسي_ والأمر الذي هو عليه_ ألّا يدع خبر هربه يخرج عن نطاق شخصية واحدة أو اثنتين، فالبعد الجمعي يعبر عن ( إيجابية ) الفضاء الذي ينتمي إليه وهو ما يتوازى مع فضاء العائلة؛ وليس هذا فحسب بل يمثلون الحركة ( الإنسانية ) المساعدة له في التخفي والهروب.. وهذا المكان الإيجابي الريفي منه أُشْتقّ اسمه الجديد (محمد العطراني ) الذي أطلقه عليه نوار زوج اخته في أول يوم وطأت قدمه الهاربة هذا المكان الأمين.. ( الرواية 27) فمنحه اللقب الذي يعني ( حلم العطر في الليل المطفأ ) ( الرواية 29) ولم يخف السارد الانعكاسات الإيجابية للمكان ( العطرانية ) بطبيعتها ( امتد بصره في أرجاء واسعة من العطرانية والأشجار الصغيرة التي زرعت في أماكن متفرقة.. ) ( الرواية 112). وعلى العكس جاءت بغداد لتمثل فضاء سلبيا لأنها تعني فضاء ( السلطة ) وكذلك الفضاء المدني الغريب على أسرة ريفية تنتمي إلى الجنوب، ففي أول مشهد سردي في بغداد، وهو مشهد وصول نوار إلى بغداد حاملا رسالة من العطراني إلى أسرته، يجد القارئ ( الاغتراب ) الذي تعانيه الشخصية قياسا بالفضاء الريفي الجنوبي الرحب. وفي الوقت الذي يثق الهارب السياسي بكل الذين يحيطونه في العطرانية، فإن ( خالد ) غير السياسي لا يأتمنه جاره البغدادي ( لم يعد جارا مؤتمنا في نظره ) ( الرواية 376) وحين رجع العطراني إلى بغداد منحته نصيبا من فعلها السلبي المتوزع بين الاسقاطات المادية على الأشياء الخارجية وبين حركة الشخصيات وفعل الحدث السلبي.. ففي بغداد لم يجد نوار الذي ( يفديه بروحه) أو عباس ( الساهر على سلامته ) بل وجد ( رجل البوليس الشرس ) و ( الرجل الشاذ جنسيا!) و ( الرقيب ) و( البعثي ) و ( القاتل ).. تحول من ( محمد العطراني ) في العطرانية إلى ( محمد الصباغ ) في بغداد، بعدما ضاق به وبعائلته العيش ولقمة الخبز! وجد فضاءً لم ينتم إليه وغريبًا عنه وعن عائلته.

وأعتقد أن بؤرة الصراع في العمل السردي تتجلى بين ( الفرد / العطراني) مع ( الآخر / العائلة) أعني المستوى الإيديولوجي وكلاهما ( الفرد والعائلة ) في مواجهة ( الآخر / بغداد !) وعلى المستوى الأول فقد كثرت المشاهد السردية التي ( يلغز) فيها المؤلف لـ ( هجاء ) الحزب الذي ينتمي إليه ( الأب ) والمدهش أن المؤلف لم يذكر اسم الحزب اطلاقا في عمله، بل حتى في الحوار الدائر بين ( الأب والابن) حول واقع الجامعة يخبره ابنه _ وهم في الدار _ بأن ( قوى يسارية بدأت تصعد !!) ( الرواية 143) ولا أدري لماذا لم يخبره من هي القوة اليسارية؟ فلا يختلف اثنان أن الحزب: الشيوعي والقومي والبعثي هي القوى السياسية الموجودة على الساحة العراقية _ آنذاك_ وقد ظهر المد الإسلامي لكنه ليس بموازاة هذه القوى السياسية. فإذن لماذا أخفى ( المؤلف ) اسم ( الحزب ؟ ! ) والأمر الأهم أنه استعمل دالا تعويضيا عن الدال المحدد لاسم الحزب هو الدال ( جماعتك ) الذي تكرر في العمل كله إحدى عشرة مرة بصيغ اسنادية مختلفة ( جماعتك _ وهو الأكثر _ ، و جماعتي، والجماعة: التي ذكرت مرة واحدة فقط على لسان سليم الصديق الذي ساعده في إيجاد عمل له خارج بغداد وطلب منه العودة إلى التنظيم ).. وما ذا يعني إضافة الضمير ( كاف ) المخاطب إلى الدال ؟ هل تقف الدلالة عند ( المتكلم _ المخاطب ) ؟ أم لها دلالات ثقافية تحدد ( الذات _ الآخر ) ( المنتمي _ اللامنتمي ) ( السبب _ النتيجة )؟ أعتقد أن الدال يمثل ( بؤرة سردية ) مركزية قامت عليها الرواية، ومن هذا المنطلق فالدال ينفتح على نوافذ هيرمنيوطيقية واسعة ويفتح نافذة بلاغية تتمثل بالأسلوب ( الساخر ) بما ينسجم مع المستوى التعبيري الشعبي المألوف.. إنه ( هجاء ) للإيديولوجيا وهي تأكل العقول وتحرم ( الأب ) من ( العائلة ) ومن هنا فقد كثرت مشاهد اللوم والعتب من قبل العائلة ( الجماعة) على الأب ( الفرد ) : ( أهذا ما كنت تحلم به يا محمد في حياتك المضنية والشاقة ؟ ) ( ص 40) ( لماذا يدفع الأبناء ثمن المجد الذي يناله الآباء ؟ ) ( 131) وعلى لسان ( أم محمد الخلف : ( خلي سلاتين يسلتكم ) ( ص33) وتعني ( ستالين ).. بل وصل الحد إلى اللوم الذاتي بعد أن راجع العطراني نفسه ( لماذا أسلمنا أنفسنا للذبح؟ لم نعد نقرأ في كتبنا سوى اللغو ) ( ص91).

ومما يلفت النظر تسرب مشهد ( الحلم ) بين المفاصل السردية، فقد تكرر الحلم أثناء النوم سبع عشرة مرة في الأعم الأغلب لمحمد الخلف بحدود أربع عشرة مرة ، والبقية لخالد ولأمه زهرة.. ما دلالة الحلم السردية ؟ تقوم الرواية على أسلوب الحدث التسلسلي المنطقي من دون استرجاع أو استباق ففصول الرواية الأربعة والأربعون ذات تسلسل منطقي، ليس هنالك تداخل في الأحداث ولا تمازج في الأفعال السردية، وأحسب أن السبب هو نوع الرواية ( السير ذاتي ) القائم على تقارب ما بين ( المتن الحكائي ) و ( المبنى الحكائي ) فضلا عن ذلك أن همّ المؤلف ( توثيقي ) أكثر مما هو ( تخيلي / سردي ).. وعليه فالحلم هو أشبه بالمعادل السردي الذي يحرك الفعل نحو الاستباق من جهة وتعويضا عن ( غياب ) المونولوج عن الحركة السردية من جهة أخرى.. كما يمثل تجسيدا لطقس ميثيولوجي يقوم على نبوءة الشخص برؤية المنام.

أقول : إن رواية جمال العتابي أصغت إلى ( الذاكرة ) الشخصية ونسجتها بحيل روائية تحقق التوازن بين البعدين : التخييلي والمرجعي ليكونا شريكين في صناعة رواية سيرية تنتهي مع انتهاء ( حلم زهرة ).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram