اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > تحويرات ناصيف اليازجي السردية وتدشين قالب القصة العربية

تحويرات ناصيف اليازجي السردية وتدشين قالب القصة العربية

نشر في: 11 نوفمبر, 2023: 11:28 م

د. نادية هناوي

إنّ أهمية السرد في حياة الانسان هي التي أرشدته إلى فنون الأدب وهدته إلى تطويرها وبحسب ما في الحياة من متغيرات.

ولقد دشن القصاصون العرب القدماء قالب المقامة بعد مراحل من الابتكار الفني في سرد الحكايات والقصص، استدعته طبيعة الحياة العربية وما مرت به من وقائع وأحداث. وعكس استقرار هذا القالب السردي أهميته وفاعليته في التعبير عن الذات والمجتمع كنظام سردي له تقاليده الموضوعية والفنية. ولم تمنع تلك التقاليد النظام من أن يتطور وبما لا يخل بالقاعدة التي عليها أقام السرد العربي أبنيته وقوالبه. وهو ما تؤكده مقامات ناصيف اليازجي(1800ـ 1871)، وفيها اتبع تقاليد قالب المقامة المعروف في العصور الوسطى فتمكن من تطويره.

وقد فرغ من كتابة مقاماته الستين عام 1855 وجمعها في كتاب سماه(مجمع البحرين) وليس هو في ذلك بالوحيد، بل مثله عشرات الكتّاب الذين عاصروه وألفوا كتبا في المقامات. ومن تقاليدها أن الحكاء يخبر عن سارد مفصول عن السارد العليم، وأن يكون الافتتاح بواحد من الأفعال الآتية(حكى / حدث/ اخبر/ قال/ حدثنا/ روى/ اخبرنا) كما أن المكان يتغير مع كل مقامة، ومنه تتخذ عنوانها كالحجازية والكوفية والحلبية. والبطل محوري ويتمتع بلسان ذرب فصيح مسجوع، به يحسن إنشاد الشعر والتمثيل به على وفق سياق الأحداث المروية.

ولقد ادخل اليازجي تحويرات فنية انتقلت بالمقامة من كونها نوعا سرديا إلى أن تكون جنسا هو القصة الحديثة، وتتمثل تلك التحويرات في:

1 ــ أنه غيّر اسم السارد إلى سهيل بن عباد وسمى البطل بالشيخ ميمون بن خزام:

أنا الخزامي سليل العرب اذهب بين الناس كل مذهب

وله روح فكهة تجعله قادرا على تمثيل مختلف الأدوار فيكون طبيبا وخطيبا وقاضيا ولغويا وفلكيا ومسافرا غريبا ويجمع بين الاحتيال وادعاء معرفة العلوم كالطب والفلك والفقه والمنطق واللغة وصنع الأحاجي والدراية بالخيل والإبل. وعادة ما يتغير مجرى السرد باستعمال ظرف الزمان(إذا)(وإذا ركبٌ يضربون أكباد الإبل / وإذا موكبٌ من الرجال قد ازدحموا على شيخ) وبهذا الظرف تتعقد الأحداث فيحتبك السرد ويكون للامعقول دور في التصعيد الدرامي(ولما فرغ من أبياته زفر زفرة الضرام وقال هذا ممن يمشي على الماء.. وطفقوا يقبلون يديه ويتبركون بمس برديه)ص22

2 ـــ أن الحكاء الذي كان مختفيا وراء السارد عند الحريري أصبح عند اليازجي ظاهرا في هيأة مؤلف منتج يكثر من الاعتذار عن ما (لفَّقه) من أحاديث. وليس التلفيق سوى متخيل سردي، أما الأحاديث فهي المقامات التي في قالبها صب ذاك المتخيل، فقال مستهلا كتاب مجمع البحرين:(الحمد لله الذي جعل المقامات لأهل الكرامات حمدا يزلفنا إلى مقامه الأسى ويتحفنا ببركات أسمائه الحسنى.. أنني قد تطفلت على مقام أهل الأدب.. بتلفيق أحاديث.. ونسيت وقائعها إلى ميمون بن خزام ورواياتها إلى سهيل بن عباد وكلاهما من بني مجهول)ص9.

3 ـــ أن اليازجي حدد أغراضه الأخلاقية ومقاصده العلمية من التلفيق / التخيل(تحريت أن أجمع فيها ما استطعت من الفوائد والقواعد والغرائب والشوارد والأمثال والحكم والقصص التي يجري بها القلم وتسعى لها القدم)ص9 وقال مختتما مقاماته:(هذا آخر ما علقته من هذه الأحاديث الملفقة: تلقيت هذه الصناعة من باب التطفل والهجوم إذ لم اخف على أستاذ قط في علم العلوم وإنما تلقفت ما تلقفته بجهد المطالعة.. فان أصبت فرمية من غير رام وإن أخطأت فالمعذرة عند الكرام)ص325

4 ــ أضاف اليازجي إلى موضوعات المقامة المعروفة موضوعات جديدة كالتحكيم والتظلم والهجاء والمخاصمة والتوبة وغيرها، ص83. وهذا التجديد في الموضوعات هو دليل الاستجابة لروح العصر، فكيف بعد ذلك لا يكون للعصر أي صدى في مقامات اليازجي؟!

5 ــ أن السجع الذي كان ساردو المقامات في العصور الوسطى يتباهون به صار سارد المقامة في القرن التاسع عشر يتملل منه ويحاول التخلص من سطوته، فكان السجع في مقامات اليازجي قليل التوظيف وعادة ما يرد في المقدمة حسب كأن تفتتح بالقول:(مللت الحضر، وملت إلى السفر، فامتطيت ناقة تسابق الرياح، وجعلت اخترع الهضاب، والبطاح حتى خيم الغسق وتصرم الشفق)ص11

6 ــ أن لقاء السارد بالبطل عند اليازجي يكون عفويا أي أن لا معرفة سابقة بينهما، ففي (المقامة البدوية) يلتقي سهيل بن عباد رجلا من وراء الحجاب هو الشيخ ميمون بن خزام.

7 ــ يشترك في بناء الحبكة السارد والبطل وشخصيات أخر مساندة، فحين لاح اللصوص للشيخ ميمون وكان معه غلام وجارية والسارد سهيل، احتال الشيخ على اللصوص وقال لهم: (يا قوم هل أدلكم على تجارة تقوم بحق الغارة فطلب من الغلام ان يهبط بهم إلى مراعي الريف قال سهيل: فلما توارى بهم اوفض الشيخ على ناقته القلوص حتى أتى فنادى اللصوص وطلب المراعي فانهالت في أثره الرجال وإذا اللصوص قد ساقوا قطعة من الجمال فأطبقوا عليهم من كل جانب وأخذوهم أسرى إلى المضارب)ص12 وكل ذلك جرى ليلا وحين أشرق الصباح قال الشيخ: (عند الصباح يحمد القوم السرى) وأخذته هزة الطرب وانشد شعرا وعلق السارد(فعجبت من أخلاقه وأسفت على فراقه وودت على ما بي من الفاقة لو مكث واستتبع الناقة). ولا يخفى ما للحوار باستعمال(قال وقلت وقالوا) من دور في تصعيد درامية التحبيك.

8 ــ تعليق السارد على ما قام به البطل من أفعال يؤكد انه يتقصد تقديم قصة تتألف من مجموعة أحداث. ولذلك سمى كتابه(مجمع البحرين) وأخذه من قوله تعالى(وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) فأراد اليازجي بالمجمع ما يجتمع في القصة من أحداث وشخوص وبالبحرين ما يبحر فيه باحثا في القصة عن أمثال وحكم وفوائد وغرائب، وليس كما ذهب د. شوقي ضيف من أن اليازجي قصد بالبحرين النظم والنثر.

9 ـــ أن أغلب تعليقات السارد إيجابية باستعمال واحدة من هذه الصيغ (فرجعت أقول: / ورجعت استمطر/ فعجبت من أفانينه / وما زلنا كذلك حتى/ فودعته / فأمسكت عنه/ فوجدت / كان ذلك من أعجب ما رأيت) مع الخلو من الأحاجي والألعاب البلاغية والفكاهية.

10 ــ البطل يظهر دائما في هيأة شيخ قد لا يسميه وقد يسميه باسمه الكامل أو ينقص منه أو يزيد عليه كقوله (وإذا قوم قيام حول شيخ وغلام / اقبل شيخ/ شيخنا ميمون بن خزام/ وإذا هو صاحبنا الميمون بن الخزام/ إذا لمحت شيخنا الخزامي/ وإذا شيخنا الميمون/ لقيت الخزامي / قد وفد الخزامي / اقبل الخزامي/ إذا الخزامي قد اقبل / اقبل الخزامي/ إذا الخزامي قد اقبل / إذا الخزامي هناك راتع/ وإذا الخزامي متعلقا برجب)

11 ــ تتعدد أوصاف الشيخ بحسب موضوع كل مقامة على هذه الشاكلة(دخل شيخ اغبر/ وإذا الشيخ اكبر من لبد/ كان في صدر الحلقة شيخ أفطس العرقبة/ وكان فتوسم الشيخ بوجه باسم/ وإذا شيخنا الخزامي في حجرة/ وإذا حوله جماعة.. يحدقون إلى شيخ عليه شارة الجلال / وإذا شيخ أطول من شهر الصوم / بات الشيخ يطرفنا بحديث أسهى من السلسبيل/ وإذا رجل في مقتبل الشباب/ إذا شيخ طويل النجاد/ طلع شيخ أعمش العين / إذا شيخنا الميمون والناس إليه يهيمون/ وفد شيخ بال في رثاثة أسمال/ دخل شيخ كفيف يقوده غلام خفيف/ إذا شيخ من أبناء السبيل/ عرض لنا شيخ أسود / وفد شيخ أوهى من الشبام)

بهذه التحويرات تمكن اليازجي من التحليق بالسرد المقامي نحو القصة العربية الحديثة التي بها صور عصره وجسد ظواهر مجتمعه، فلم يشغل باله السجع والتنميق اللفظي ولم يكن همه محصورا في القوافي والطرائف اللغوية والصيغ البلاغية كما لم يستحكم عليه التفقه بالنحو والصرف وإظهار البراعة في اللغة ومعانيها التي فيها كان اليازجي عالما متبحرا وأديبا أريبا، إنما كان همه أن يجعل بطله واحدا من أبناء القرن التاسع عشر، منطبعا بطوابعهم سلبا وإيجابا، مأساة وهزلا. وبهذا يكون اليازجي قد فتح لمن بعده الطريق للجري والتسابق في اتباع تقاليد السرد القديم وتطويرها بحسب ما اقتضاه مقام العصر الحديث.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram