المدى الثقافيهل يبلغ الشعر مبتغاه من شاعرة تجيد فتح صناديق الذكريات المقفلة من وطنها الأم ،وتعطر لغتها الجديدة (الروسية) بمفردات غير مفرداتها ،وتصف لنا على الطريقة الروسية مشاعر وأحاسيس وصفات لا تمت إلى واقعها القديم بصلة ،وكيف تقدر ان توفق بين ما تحسه وتراه وتعانيه ،وتكتبه بلغة عربية ولكن بواقع غير ذلك،
وتحاول ان تستجمع نسيجها اللغوي بمفردات أكثر رقة وبرودة بما يتناسب والمناخ الروسي المتجمد ،لتشكل بذلك قصائد نثرية تترك قبعاتها على الطاولات ،وترقصن بمفاتن واضحة للعيان تثير الفضول الروسي وبقية الغرباء. لديك حلم معاد / ان تكون بيانو ابيض / كالذي تعزفه والدتك / كأنني شجرة وكأنك خريف موسكو / جهدي معتق كي ازهو للصيف القادم / وبردك ذهبي ّ لتعانق الأوراق الصفر بلا ملل .تلك المقطوعة تنم عن ان هذه الشاعرة تمسك الصورة الروسية ،وتترجم أحاسيسها بلغة عربية مقرونة ببرودة الدم الروسية ،بالرغم من إنها مشحونة بسخونة القيظ العراقي ،ولاحظ التناغم / كأنني شجرة. كأنها تريد ان تقول كأنني نخلة / انا قيظ عراقي / أنا خضراء باسقة /وأنت تشكو ذبول الأوراق/ في خريفك الموسكوفي. هذا المعنى انا اراه وربما كانت كولاله نوري تعي ذلك بقصدية تامة .من هنا تبدأ كولاله نوري بالنزوح إلى عالمها الحقيقي ،عالم الموت والحب والغيض والفيض وكل المتناقضات التي يتشح بها الواقع العراقي لذلك هي تلقي شباكها في بحر الشجن العراقي ،بالرغم من بعد المسافات بين بلادها ووطن الثلج .في قصيدة (كانوا يحرثون الثلج ،كانوا يزرعون في البحر) تحاول ان ترسم صورة –الحب والموت - على ثوب القصيدة (لإيزل ريفيرو) التي تقول فيها /قبلني بدمك قبل الحرب القادمة / أرى أوسمة السيف تعكس العذاب الذي سيأتي والسجناء الذين سيطاردون ،وسأكون حينئذ الصمت الذي سيحل ،قبلني ضمني اليك ،بقوة واسمح لطوفان جديد من الموت ، من الحضارات أن يدور .لا تقتصر الشاعرة على مد يدها الى الذكريات المعبأة في جمجمتها من وطنها الأم، لكنها تحاول ان ترسم الواقع الأوكراني أو الروسي بحروف من الثلج لكي تذيب هذا الجليد المتحجر على بابها الغريب وتمد يدها السمراء لتعقد الصداقات المرتبكة بالبرد / عطر خلاياك !/ غابات / جحافل من أحصنة ملوك السلافيين / أصيل مثل زجاجيات بيت جدتي /واضحٌ مثل الفجر / حاضر بألفة ٍمحتشدة ٍغارقة ٍ في الإيحاء . إن كولاله نوري في مجموعتها – حطب – تحاول ان تشير إلى حجم الخسائر والفجيعة في وطنها ،ولكن بطريقة البكاء بدموع من ثلج، سرعان ما تتجمد على خديها السمراوين ،وبتعبير اصح - الجمر تحت الجليد - الروسي فهي تنعى ولكن على طريقتها ،اذ تعلن / life is short / فتقول :لن أموت عليك / الأطياف التي تكره الألوان / تغتصب الشوارع لتخلف الأموات / ولأنني حبلى بمقابر / لن أجد لحدا ً يحبل بي /فأين ستضع وردة ً ؟/ دع عشرك حيـّاً /متى ستقرأ الشاهدة / إذا تقاطع وقتك مع شظية !.تعتمد كولاله نوري في هذه المجموعة على الجملة الطويلة والسرد النثري الذي تحاول فيه إن تفلت من بعض الجمل المباشرة ولكنها سرعان ما تعود إلى مباشرتها الرشيقة التي لا تترهل بل تحاول جاهدة إن تحكم قبضتها النثرية على القصيدة لتبدو أكثر إشراقاً في السرد النثري ، إن الكتابة سواء كانت شعرا أم قصة أم نثراً تحتاج إلى كم هائل من المفردات وخاصة إذا كانت هذه النصوص تكتب خارج البلاد الذي ينتمي إليه الكاتب .مجموعة - حطب – محاولة جادة لعبور القصيدة النثرية إلى الشعر الحديث بالرغم من إعادة كتابتها على الطريقة الروسية لذلك هي تحتفظ بقوة الرأي والجرأة وعبور الحواجز من كثبان الرمل والقيظ إلى جبال الجليد ،إنها شاعرة حاولت أن تغزل الرمل جليداً .
حـطب.. شاعرة صاغت الرمل جليدا
نشر في: 23 أغسطس, 2010: 05:58 م