عصام الياسري
تحت عنوان "اليوم العالمي للأكذوبة السياسية" نادت في 20 آذار 2006، لتنبيه الرأي العام مؤسسة "بيتر فايس" للفنون والسياسة في برلين، إحياء الذكرى الثالثة لغزو العراق. من خلال إقامة النشاطات بمختلف الوسائل السياسية والعلمية والفنية وبواسطة الكاريكاتير والأفلام الوثائقية.
وتم نشر نص رسالة خاصة بعدة لغات للكاتب الأمريكي المعروف "إيليوت فإينبرغر"، قرأت في ذات اليوم على نطاق واسع في العديد من المدن: برلين، لندن، سدني، لكسمبورغ، نيويورك، دلهي، لوس أنجلس ومدن أخرى من العالم. يتألف النص من عدد من التصريحات الصادرة عن أعضاء في الإدارة الأمريكية وحلفائها قبل وأثناء الحرب. إضافة إلى مجموعة شهادات لجنود أمريكيين ومواطنين عراقيين يتحدثون عن حروب للولايات المتحدة في العراق ما بين 1992 و 2005 التي قضى فيها مئات الآلاف من المواطنين وخراب المدن والبنى التحتية والصناعية والثقافية والمؤسسات العامة للدولة. لكن أهم ما جاء في نص الكاتب الأمريكي إيليوت فإينبرغر قوله: ((مع بدء القرن الحادي والعشرين على المرء أن يدرك أن الأكذوبة ما زالت أداة تستخدم من قبل حركات سياسية وتنفذه، لكنه من المفروض في الوقت نفسه توضيح أن القوى المناهضة لا يكبح نشاطها، من هنا سيجري في اليوم العالمي للأكذوبة السياسية فضح ما سمعته عن العراق!((
على الرغم من مرور أكثر من عقدين ونيف على تلك التظاهرة الفريدة من نوعها، والحكومات المتعاقبة منذ احتلال العراق ما زالت مستمرة في كذبها على المجتمع. ولم يكن التهريج والمماطلات مقتصرا على أصحاب السلطة فقط، إنما باتت ظاهرة لدى بعض النخب الثقافية والإعلامية الذين يرون مصلحة في تجميل صورة الفئات السياسية والأحزاب الطائفية المتربعة على سدة الحكم.
ولا زالت البلاد سيما منذ بدء الحراك في أكتوبر 2019 مرورا بالكورونا ومعضلة رئيس الوزراء الكاظمي وتمرير مرشح الإطار التنسيقي "محمد شياع السوداني" بعد انسحاب الصدر من العمل السياسي، بالإضافة إلى معاناة المجتمع العراقي على مدى عقدين من الفساد الإداري والمالي والصراعات الحزبية لأجل المصالح والاستحواذ على الوزارات ومؤسسات الدولة. تتعرض البلاد، إلى أزمات خطيرة سببها الإصرار على التموضع في جزئيات خاطئة في إطار "مفهوم الدولة" وأهم أساسين لها "الحكومة" و "السلطة" المعنيتين وفقا لمبادئ "القانون الدولي" كما يفترض بترشيد طبيعة الحكم وإدارة الدولة على أثر "جيوديموغرافي تاريخي" يراعي المصالح العامة للمواطنين ومبدأ انتمائهم للوطن.
أيضا من إشكاليات الدستور والقوانين المتعلقة بالانتخابات والأحزاب وأمن الدولة ومواردها، إلخ. التي أصبحت كلها في بلاد الرافدين ملتبسة وليس ثمة خصائص مادية ملموسة قادرة على صناعة التوازن وتحقيق الالتزامات المصيرية ومنها تكثيف الرقابة المالية ومحاسبة الفاسدين التي وعد رئيس الوزراء السوداني تحقيقها، على مقياس "مجموعة الإطار التنسيقي" طبعا. وفي هذا السياق، إذا ما قدر للسوداني إجراء انتخابات المجالس المحلية، لا أحد يتكهن كيف سيوفر شروطها وأهمها: القانونية والقضائية والأمنية، بالإضافة إلى منع احتمال عودة النواب الذي جلهم من أحزاب السلطة، وبعضهم حوله شبهات فساد مالي ويلعب خلف الكواليس أدوار جديدة لإعادة المهزلة الانتخابية وربما أسوأ من السابق تحت لافتة الشرعية الانتخابية.
مشكلة الدولة في اعتقادنا سببها الأفكار والعقائد والثقافات الفاسدة. التي بدأت أكثر وضوحا بشكل أساسي من خلال التشرذم السياسي ووجود أحزاب غير متآلفة مع الدستور والقانون، وتوليف الصراعات القومية والدينية والعرقية لأغراض نفعويه. أيضا، انعدام حرية التعبير واستقلالية المعتقد. وهي أساسيات مهمة في حياة المجتمع، يمكن جعلها مع سيادة القانون أمرا يمكن البلد الازدهار والتطور. لكن عندما تخضع الائتلافات الطائفية بين القوى والأحزاب للابتزاز والمساومات من أجل المصالح الفردية والفئوية، فستتعرض الديمقراطية حتى وإن كانت زائفة، إلى التلاشي. وبالتالي إلى التناحر والانقسام السياسي الذي يؤدي إلى انسداد الحكم وانكفاء السلطة والقانون، التي هي من أساسيات بناء الدولة المتطورة.
لكن دعنا نتساءل ببساطة لمعرفة: ماذا تعني الدولة من الناحية العملية؟ ومن هي السلطة؟ وما هي الحكومة؟ ومن هو الحزب؟. وما علاقة جميعها بالانتخابات، أية انتخابات. كي نستطيع في شأن كالعراق أن نحكم بين دور تلك المنظومات ومواقف المجتمعات وما تطمح من خيارات دقيقة بمقدورها من خلال الانتخابات المحلية أو البرلمانية استحداث آليات جديدة لأجل تغيير شامل لشكل نظام الحكم وإنهاء احتكار السلطة السياسية والإدارية. لكننا حينما نراجع بعضا من بين مواقف وآراء البعض من طبقة السياسيين والمثقفين والإعلاميين الذين يشكل بعضهم رافعة للنفاق والانتهازية والترويج للفئات والأحزاب المتسلطة عن قصد مدفوع الأجر، هدفه تضليل الرأي العام سيما الشباب والبسطاء بأسلوب دراماتيكي. تبدو المقارنة بين السيئ والاسوا عند هذه الطبقة التي يسودها إشكالية التفكير والجهل السياسي، انعكاسا للصراع بين جميع الأقطاب لأجل المصالح الفئوية على طول خط الجبهة.
التحدي الحقيقي لهذه الطبقة السياسية كما تفسره فلسفة الحياة بشكل موضوعي، فيما يتعلق الأمر بمجيء مجموعة ممن لا يفقهون بالسياسة وإدارة الحكم إلى السلطة، بسبب أكذوبة مرتبكة كبرى، نتائجها لا زالت حاضرة... خراب وفشل ومجاعة وأمراض وهدر أموال العراق وإفلاسه.! تحمل المجتمع مسؤولية التغيير السياسي وإنهاء نظام حكم غير محدد الصلاحيات، ليس من خلال انتخابات غير نزيهة وعادلة، ودستور مثير للجدل لا يضمن الحقوق الشخصية والسياسية لجميع أفراد المجتمع... إنما عندما تقع مسؤولية التغيير بكل جرأة وصدق وإصرار، وبكل الوسائل والأشكال الممكنة، على عاتق جميع المواطنين الذين لا يميز بينهم في ذلك دين أو عرق أو جنس.