اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > هل نحتاج إلى عودة الفكر الاستشراقي ؟

هل نحتاج إلى عودة الفكر الاستشراقي ؟

نشر في: 12 نوفمبر, 2023: 10:40 م

كه يلان محمد

المعارك التي تتوقف عليها مصائر الشعوبِ لاتقتصرُ على ساحات الوغى،وليس التفوق العسكري عاملاً وحيداً لكسب الجولات في معترك التسابق العالمي

،بل يبدأُ المشروع الحضاري بالخروج من حالة القصور العقلي والتَجَرؤ على مساءلة المسلمات والوثوقيات وسحب الأضواء نحو المناطق اللامفكر فيها، وهذا أمرُ جوهري في برنامج التنوير،ومن المعلوم أنَّ العالم العربي والاسلامي أخذت التحديات الحضارية والكولونيالية بتلابيبه منذ حملة الغرب على الشرق وتوغل مظاهر الحداثة المتمثلة في العقلانية والمنطق العلمي والقطيعة المعرفية في البيئات الغارقة والمكبلة بالثقافة التقليدية.

وكانت مهمة التوافق بين الحداثة الوافدة والأصالة اختباراً أصعب منذ ذاك الوقت وإلى الآن ومابرح هذا التحدي حاضراً على أرضية المشاريع النهضوية في مجتمعات مهجوسةٍ بضمور الهوية التاريخية.واختلفت الآليات المرشحة لترتيب الأوراق الفكرية والثقافية بين الاندماج مع معطيات الحضارة الجديدة أو الارتداد نحو التراث كما برزت أصواتُ تؤكدُ بأنَّ مواكبة العصر لايعني دفن التاريخ ولا التنكر للجذور إذن تشققت الجدران ولم يعد التجاهلُ للأمواج المُحملة بالرؤى والاجتهادات العلمية المتصادمة مع العقائد ممكناً.وماضاعف الشعورَ بضرورة التحرك والخروج من موقع المراقب هو مانشرهُ المستشرقون وهم الوجه الثقافي للحملة الاستعمارية عن طبيعة الكيانات الاسلامية التي تعاقبت على مسرح التاريخ.وبالطبع أنَّ كلَ مانهضت عليه الحركة الحضارية في المنطقة من الدين والأعراف والحياة الاجتماعية والفكرية والصراعات السياسية كانَ على مرمى الدراسات الاستشراقية وتحت مجهرها.وما إن انفرد القطب الأوحد بتحديد قواعد اللعبة العالمية حتى انصرفت الأنظار نحو العدو الجديد وهو العالم الإسلامي الذي يكون طرفاً في صدام الحضارات حسب نظرية صموئيل هنغتون.والقرينة الواقعية للمفهوم الهنغتوني تأتي مع بداية الألفية الثالثة من الهجمات التي تستهدف أمريكا.الأمر الذي يترتبُ عليه تعبئة لقراءةِ مكونات الفكر الإسلامي والمفردات المؤسسة للعقيدة الجهادية.صحيح أنَّ الحدثَ قد مضى عليه أنيف من عقدين ولكن إلى الآن مثارُ للجدل وسط الثقافة الغربية ويستدلُ على قولنا هذا مارصده الباحث السوري هاشم صالح في إصداره الموسوم “ الإسلام في مرآة المثقفين الفرنسيين” من آراء نخبة فاعلة في ملعب الفكر الفرنسي عن روافد العقيدة الإسلامية.ويفهمُ القارىء من حيثيات الكتاب بأنَّ التوترات الأمنية التي شهدها المجتمع الفرنسي في أواخر عام 2015 زادت من اهتمام الشريحة المثقفة بالأصول العقائدية في الإسلام.

العقلانية المتعثرة

قبل أن يقدم رؤية أسماء فكرية بارزة حول الإسلام والتيارات المُنتسبة إليه يتناول صالحُ في مدخل الكتاب جملةً من الإشكاليات والهموم الضاربة بجذورها في التشكيلة العقائدية المناوئة للعقلية الفلسفية الأمر الذي يستدعي التفكير بنفس نيشتوي حسب رأي المؤلف لأنًّ واقع المجتمعات الإسلامية لايختلف عن المرحلة التي سادت فيها محاكم التفتيش في أوروبا إنْ لم يكن أكثر تعقيداً إذن غزت أورام التطرف المناخ الثقافي والفكري لدرجة مايرشحُ منه يذكر بقرارات توماس توركمادا.ولايمكن التعافي من هذا السقم العقلي قبل مايسميه صاحب “العباقرة وتنوير الشعوب “بالتفجير الفلسفي.ولايفيدُ الإلقاء بالمسؤولية على مشجب الآخر للخروج ممايعتبره الكاتب نفقاً للظلامية.ويناقش هاشم صالح في ذات السياق إمكانية البحث عن الخطاب الإسلامي المعتدل واختلافه عن التيارات المتطرفة غير أنَّ الفرق بين الإثنين لن يكون إلا طفيفاً ومن ثمَّ يشير إلى أنَّ الآيات التي تدعو إلى الاعتراف بالأديان الأخرى لايتم العملُ بها مقابل الانصراف إلى كل ما يؤكدُ الاستعلاء الديني.ويلتفتُ إلى مصطلح إزدراء الأديان موضحاً بأن المراد بهذه العبارة هو خلط الأوراق وإحداث اللغط وقطع الطريق على أي محاولة لتجديد الفكر الديني.وتقديم خطاب مغاير عن الخطابات المُتشددة.وبذلك ينجحَ أصحاب التيار الانغلاقي في إقصاء الفهم العقلاني للنصوص الدينية ويعتقدُ هاشم صالح بأنَّه لو كان شبح هذه المصطلحات المتوجسة من التفكير ماثلاً في أوروبا ما أرخَ للانطلاقة الحضارية ولا التنوير العقلي.كذلك فإنَّ كل ما أضافه الفلاسفة المسلمون في العصر الذهبي من الرؤى والقراءات الحيوية قد يُدرجُ في مربع مفهوم إزدراء الأديان إلى جانب ماتحققَ مع بدايات عصر النهضة في أوائل القرن المنصرم.تتغذى ظاهرة الاستبداد السياسي من الانسداد اللاهوتي حسب تحليل المؤلف.إذن مايجبُ أن يكون ضمن الأولويات في هذه المرحلة هو غربلة التراث لأنَّ المفاهيم السائدة لاتوافقُ حركة العصر كما أنَّ النظرة التقليدية إلى موجات الحداثة واختزالها في البعد التقني يقطع الطريق على المساعي الرامية إلى النهوض العقلي.فالأزمة برأي صالح مركبةُ فمن جهة هناك تغافل عن تحديات تضعُ المصير الوجودي على المحك كما تتخبط العقول من جهة أخرى في الركود والاجترار التفسيري.ومايبعدنا عن التنوير ويعمقُ الفجوة الحضارية بين المجتمعات العربية والعالم الغربي هوغياب المثقف المنشق الذي يخوض في صراع ضارٍ ومضنٍ مع نفسه وتراثه وطائفته وآيدولوجيته على غرار فولتير فالأخير كان من الأغلبية الكاثوليكية ثار على أبناء طائفته عندما بدأت حملة الإبادة الجماعية ضد الأقلية البروتستانتية في فرنسا.يؤكدُ هاشم صالح بأنَّه ليس ضدالدين بل يرفض التأويل الظلامي والجمود الفكري والتراوح في التقليد واجداً في ماقاله أرسطو بأنَّه ليس ضد الآلهة لكن ضد فكرة الجمهور عن الآلهة مستنداً للإبانة عن موقفه.وكل ما يريد قوله هوأنَّ إسلام البغدادي والزرقاوي وبن لادن يختلف عن إسلام المعتزلة وابن رشد.ويقابل صاحب “مدخل إلى التنوير الأوروبي “ بين الأصوليين الجدد وأئمتهم أمثال ابن تيمية والغزالي فكلاهما كان عالماً ومتمكناً في الفلسفة وعلم الكلام ولولا الدراية الكاملة بفلسفة أرسطو لما استطاع الغزالي أن يقارع الفلاسفة في عقر دراهم كما أنَّ الشيخ ابن تيمية لم يكن منقطعاً عن علوم عصره وهذا مامكنه من الرد على المنطقيين “نصيحة على أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان” بينما أتباعه اليوم تعوزهم الثقافة الدينية ولايتفاعلون مع المعطيات الفكرية الُمعاصرة.وهذا مايفسر تفاقم ظاهرة التجهيل والإشهار بالتكفير.يضعُ هاشم صالح التيارات المتطرفة في سياق التراكمات التاريخية وهي كامنة في تربتنا وتطفو على السطح .ولا يتغافل عن دور الأنظمة السياسية المتهالكة في الارتكاسة الحضارية .والحال هذه فلاضير برأي المؤلف من الاعتراف بالقصور العقلي في قراءة التراث على ضوءِ مناهج معرفية حديثة وبالتالي يمكن التعويل على مايقولهُ المثقفون الغرب بشأن العقدة التراثية وآليات تفكيكها.

البعد العالمي

مصائر العالم أصبحت متشابكة،لاتوجدُ أزمة محلية دون أن يكون لها تبعاتُ على سائر المُجتعات وإنْ بدرجات متفاوتة لذلك فمن الطبيعي أن تكون للمفكرين من جغرافيات أخرى مداخلات حول أمراضنا الحضارية ولايصحُ أن يعتبرَ ذلك غزواً فكرياً أو امتداداً لحملة كولونيالية.يقرُ صالح بوجود آراء شعبوية عن العالم الإسلامي في الغرب ،والاستهتار بالرموز الدينية لكن مقابل ذلك ثمة مفكرين قد تحظى رؤيتهم بالمصداقية ومن الشخصيات التي تقع على آرائهم في الكتاب باسكال بروكنير ومشيل أونفري وريمي براغ وأندريه كونت سوبنفيل وشفيق كيشافجي وعلى الرغم من التباين في الخلفية الفكرية بين هؤلاء المفكرين بعضهم محسوبون على اليسار الإلحادي ومنهم منْ هو أقرب إلى المسلك اللاهوتي لكن لايختلفون في الرأي على أنَّ التطرف متجذر في الثقافة الإسلامية ويقترحون تعليق العمل ببعض الأحكام والآيات.أكثر من ذلك يعتقد سبونفيل بأنَّه إذا كان المقصود بالاسلاموفوبيا الخوف والرهاب من الإسلام فهذا أمر مشروع نظراً لحالات العنف التي تكررت في المدن الأوروبية.و من بين هذه الأصوات لايغيب دومنيك أورفوا الذي يقول بأنَّ هناك فرقا أساسياً بين المرحلة الكلاسكية الذهبية من تاريخ الإسلام والمرحلة الحالية إذ كانت الإبداعية الفكرية أكبر بكثير مما عليه اليوم.كما أنَّ المفكرين المعاصرين أقلُ جرأة من أسلافهم.لعلَّ الأغرب هو مايذهب إليه سيلفان غوغنهايم حيثُ ينكرُ صاحب “ أرسطو في جبل السان مشيل :الجذور الإغريقية لأوروبا المسيحية” دور العرب في معرفة الغرب بالفكر اليوناني فبرأيه لم يكن العالم الإسلامي حلقة الوصل بين المرحلتين التاريختين لأن التراث الإغريقي انتقل إلى أوروبا مباشرة عن طريق بيزنطة.وبالتاكيد لايفكرُ الجميع على غرار سيلفان يردُ عليه آلان دوليبيرا لافتاً إلى أنَّ الفلسفة كان مطية للاهوت في العصور الوسطى وشاعت في البيئة الأوروبية مقولاتُ تفيدُ بأنَّ الإيمان لامعنى له إذا كان بحاجة لإمكانيات العقل البشري للبرهنة عليه.فيما بادر ابن رشد للبرهنة على عدم التعارض بين العقل والنقل.وأكثر مايشدُ الانتباه في تضاعيف الكتاب هو المفصل الخاص بالسجال بين أرنست رينان وجمال الدين الأفغاني فبرأي رينان أنَّ التربة الفكرية في العالم الإسلامي غير مواتية لاستمرارية الحركة الفلسفية ومايسمي بالعصر الذهبي لم يكن إلا فترة قصيرة وانقلب عليها العقل الفقهي.يستنكرُ جمال الدين النبرة العنصرية في كلام غريمه أرنست رينان موضحاً بأنَّ العرب قد أعادوا الحياة إلى الأفكار المهجورة وأضافوا إلى ما أخذوه من الأمم الأخرى.والملاحظُ في ردود الأفغاني هو مرونته في التفكير وتفهمه المنطقي للتحديات الحضارية.يتوقف الكاتبُ أيضاً عند الملمح الروحاني لمقاربة المفكر التونسي عبد الوهاب مؤدب لمفهوم الدين واستعادته لمشاهير التصوف وعلى رأسهم حسن البصري الذي كان يتخذ السيد المسيح نموذجاً وقدوة على الزهد بالحياة الدنيا ومتعها وأتباعه يستشهدون بالتوراة والزبور والإنجيل ولم يفرقوا بين الكتب السماوية لأنهم كانوا على بصيرة بالنصوص القرآنية.أخيراً فإنَّ المتابع لفصول هذا الكتاب لايسعه إلا أنْ يتساءلَ هل يستمدُ الغرب قوتهم وامكانية التفوق من المعرفة العميقة بتراثنا؟ يبدو أن مانعرفه عن أنفسنا لايُعتد به قياساً ببحوثهم الاستقصائية بطبقات تاريخنا.لايفوت القارىء الإدراك للمنحى التمييزى في معالجة الباحثين الغرب للفكر الإسلامي الحافل بالجدل والحيوية لكن هذا ما انتهجه الغرب حتى مع الثقافة الروسية عندما علت الأصوات مطالبةً بإتلاف التحف الأدبية لتولستوي وديوستفسكي.هنا من الضروري الإشارة إلى أنَّ مايتقاطع فيه المثقفُ التنويري مع الفقيه الأصولي هو النسق العقلي كما أنَّ الأخير يترقبُ المنقذ يعيدُ المجد إلى الأمة كذلك فإنَّ الأول ينتظرُ فولتير الذي قد يظهر من بطون الغيب كما يعاني الاثنان من العقدة الحضارية مع غياب الصيغة المتوازنة للتعاطي مع الواقع الراهن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram