اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: لوحة مخبأة خلف جدار

باليت المدى: لوحة مخبأة خلف جدار

نشر في: 12 نوفمبر, 2023: 10:41 م

 ستار كاووش

لا يحتاج الوصول الى متحف كنستهاله بمدينة هامبورغ سوى عشر دقائق مشياً، لذلك تمهلتُ بالذهاب مبكراً الى هناك حتى يتوقف المطر. هكذا إنطلقتُ في العاشرة صباحاً نحو المتحف الذي يضم ثلاث مبانٍ كبيرة شُيِّدَت على فترات متباعدة، إبتدأت سنة ١٨٦٣ وإنتهت سنة ١٩٩٦، والبنايات قريبة من بعضها ويربطها نفق تحت الأرض.

هنا يمكنني مشاهدة أعمالاً فنية تمتد لثمانية قرون، من العصور الوسطى وحتى يومنا هذا. وقفتُ أمام البناية الرئيسية للمتحف بلونها الأحمر الدافيء، والتي بُنيت على طراز عمارة عصر النهضة الايطالي، وقد إستقرت مجموعة من التماثيل على الواجهة، بعد أن أخذت أماكنها في ما يشبه النوافذ أو الكوادر الصغيرة، وتماهت مع شكل البناء، وهي لشخصيات شهيرة من المبدعين، مثل رافائيل ومايكل أنجلو وغيرهما الكثيرون. كما ضمت الواجهة أشكالاً زخرفية توزعت على الجدار الأمامي والجانبين.

حال دخولي المتحف داهمتني لوحة (دخول تشارلز الخامس الى أنتفيربن) التي رسمها الفنان النمساوي هانز ماكارت سنة ١٨٧٨، لم تكن لوحة عظيمة وحسب، بل هي أكبر لوحات المتحف حجماً، بإرتفاع خمسة أمتار وإمتداد تسعة أمتار ونصف! ولها سطوة وهَيبَة وتأثير طاغ على كل من يقف قبالتها. والغريب في أمر هذه اللوحة المهمة، هو إنها كانت مخبأة في السابق خلف جدار من الجبس داخل المتحف، لأن بعض المسؤولين وقتها رأوا إنها لا تتناسب مع المعروضات. لكن بعض الباحثين تمكنوا من الوصول اليها من خلال باب جانبي صغير بين الجدران، لتعود للعرض قبل ثلاث سنوات فقط. تأملتُ هذه اللوحة الساحرة التي ضمت أربعين شخصية تقريباً، حيث امتلأت بالنساء والفرسان والخيول والأعلام، وإستعدتُ واحدة من أجمل فترات الفن في التاريخ وهي واقعية النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

يُصور هذا العمل، مشهداً يعود الى سنة ١٥٢٠ حيث الملك النمساوي الشاب تشارلز الخامس، راكباً حصانه الأسود أثناء دخوله مدينة أنتفيربن البلجيكية، محاطاً برعاياه ومستقبليه الذين يرتدون ملابس مزخرفة، كذلك تضم اللوحة مجموعة من النساء العاريات، ويسير هذا الجمع على جادة تتناثر فوقها الزهور.

وقد أثارت هذه اللوحة العملاقة جدلاً واسعاً عند عرضها لأول مرة ، وذلك بسبب الطريقة التي أظهر فيها ماكارت النساء العاريات، ووصل الأمر الى أن اللوحة قد رُفِضَتْ من قبل القائمين على الفن في فيننا، واعتبروها غير دقيقة تاريخياً، وليست لائقة بتاريخ النمسا بتصوير الملك محاطاً بالنساءالعاريات. ومازاد من رفضها هو إن وجوه النساء في اللوحة تتشابه كثيراً مع وجوه بعض نساء المجتمع الارستقراطي المعروفات في فيينا. لكن رغم كل الاعتراضات، لم تكن هذه التفاصيل ولا المجتمع الراقي ولا نساءه، هو ما يهم هذا الفنان العبقري ، ولا حتى مكانة الملك أو المشاعر القومية للنمسا أو الدقة التاريخية للحدث، فقد أهمل كل ذلك وصنع عملاً عبقرياً ركز فيه على التناقض الصارخ بين ملابس الملك وحاشيته مقارنة بالنساء العاريات، وذلك ما جعلتي أفكر مباشرة بلوحة مانية، الغداء على العشب، والتي رسم فيها أيضاً مجموعة من الرجال بكامل ملابسهم الانيقة، صحبة نساء عاريات تماماً على العشب.

ما يهم في لوحة ماكارت، هو كيف سيطر الفنان على قماشة الرسم الواسعة؟ كيف إبتكر التكوين المناسب لهذا العمل ؟ كيف وزع الشخصيات لتتوازن أجزاء اللوحة كإنها خشبة مسرح يتحرك عليها ممثلون أجادوا أدوارهم ببراعة وإتقان! نظرتُ الى زخارف الملابس وإيماءات الشخصيات، تأملتُ الى الناس الذين يطلّون من الشرفات لإستقبال الملك، ثم إقتربتُ من اللوحة حتى صرتُ كإني جزء من الناس والفرسان، فيما يهلل أحد الشبان على حصانه، رافعاً راية المللك الحمراء. رماح الفرسان تتجه نحو الأعلى، وسيقان الناس تتحرك في الأسفل وهي تقطع الطريق، وبين كل ذلك تتقدم فتاة حاملة زهوراً بيض وتسير أمام حصان الملك، فيما الأطفال مبهورين بهذا الموكب. يمضي الجمعُ نحو مدينة أنفيربن، وخلفهم السماء الزرقاء تمنح عمقاً للمشهد. لوحة مليئة ببريق زخارف الثياب ولمعان الدروع وبهجة الناس المشوبة بالحذر. هنا نرى كيف أنجزَ هذا الفنان عملاً خيالياً مذهلاً ، هنا أمام هذا العمل شعرتُ بأن هذا الرسام بدلاً من يرسم التاريخ، قد رسم لوحة للتاريخ.

يتميز عمل ماكارت (١٨٤٠-١٨٨٤) بالأسلوب الأكاديمي النموذجي الذي كان سائداً في ألمانيا والنمسا في منتصف القرن التاسع عشر. لقد رسم العديد من المشاهد التاريخية وكذلك العديد من المشاهد الحسية، كلوحته المهمة (الحواس الخمس)، الموجود الآن في متحف (قلعة) بلفيدير. كما إشتهر بلوحاته الجدارية ذات الحجوم الواسعة، وعمل مصمماً للديكور، كذلك إن أغلب الأزياء التي كانت ترتديها الموديلات التي يرسمها كانت من تصميمه.

كان ماكارت أهم فناني عصره في النمسا، وكان محاطاً بالكثير من المشاهير الذين كانوا يتحلقون حوله بإعجاب منقطع النظير، لكن بعد وفاته هبطت سمعته الفنية كثيراً، مع ذلك وكما يحدث غالباً في الفن عادت سمعته الفنية وتأثيره سواء في الرسم أو التصميم وحتى الديكور، وطبعت أعماله على الطوابع البريدية وعلى النقود ايضاً، كذلك حملتْ إسمه إحدى الساحات المهمة في مدينة ساسبورغ التي ولد فيها. إضافة الى كل ما قدمه ماكارت من أعمال عظيمة، فلديه إنجاز آخر فريد يقف شاخصاً في تاريخ الفن، وهو تأثيره الكبير على الرسام العبقري غوستاف كليمت، الذي شقَّ طريقه فيما بعد للوصول الى اسلوبه الخاص، لكن رغم ذلك، فتلك الشهوانية التي تميزت بها اعمال ماركات وكذلك الأشكال الزخرفية والديكوات الفاخرة صارت أهم سمات كليمت الفنية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram