عادل العاملترك الحضور الرمضاني المتكرر في كل عام، بجوِّه الديني العام، و إيحاءاته الروحية، و طقوسه المتوارَثة، تأثيره الواضح على أفكار و أعمال العديد من أدباء عصرنا هذا، خاصةً أولئك الذين عايشوا جماليات الاحتفاء بهذا الشهر قبل أن يكتسح الكثير منها بلدوزر الحضارة الغربية الزاحفة في كل مكان.
و من هؤلاء الأدباء العرب المتميزين في هذا الشأن الكاتب المصري يحيى حقّي، الذي بهرته السيرة النبوية الشريفة فصبَّ تأملاته في أجوائها الموحية على شكل مقالات قصصية و خواطر و انطباعات جمعها في كتابه (من فيض الكريم ).و من ذلك خطابه البليغ للرسول الكريم حيث يقول : " أما أنت فإنسانٌ قد لا يمكن إلا أن تكون نقطة بداية يؤرَّخ بكَ لكونك فاصلاً بين قديمٍ و جديد .. كأنك مُنبتُّ الصلة بكل مَن سبقك .. حتى بأمك و أبيك .. أيامٌ لن تُسمّى بالماضي إلا لأنك أوليتها أنت ظهرَك .. و أيام لا تسمى بالمستقبل إلا لأنك رأيتَ ما لا يرى سواك من وراء الأفق .. فأنت السيف الباتر و المحراث المغلغِل و المصباح المنير ... "و احتفالية يحيى حقي بشهر رمضان تنبع من حبه الروحي و العقلي لهذا الشهر، الذي ينفرد بانتزاع الأسرة من التشتّت، و يلمّ في البيت شملها على مائدة الإفطار من الفطيم إلى الأهتم، كما يذكر عبد الرحمن أبو عوف، و هو الشهر الذي لا بدّ من أن تسأل ربّة البيت و ترى هل أكلت الشغّالة أم لم تأكل؟كما أن للكاتب احتفاليته العاطفية القائمة في ذاكرته مزيَّنةً بالفرح و الاستقبال الشعبي البهيج لليلة الرؤية. .. فبعد أن يوقّع قاضي المحكمة الشرعية على محضَر ثبوت رؤية هلال شهر رمضان و تُدار أكواب الشربات على الحاضرين و هم يتبادلون التهنئة ثم يُعلَن النبأ فيصيح الصِّبية : صيام .. صيام! ثم يبدأ موكب الرؤية :نحن الصِّبية وقوفاً في شوارعنا نترقَّب بلهفة منذ ساعات مرورَه، و نلوم القاضي في قلوبنا لوماً شديداً إذا أجَّل الرؤية إلى غدٍ، مع أن الغدَ قريب ... هكذا يبدأ يحيى حقي تفصيله الممتع لمفردات الموكب الاحتفالي الذي تتقدّمه فرقة الموسيقا، حيث يبهرنا، يقول الكاتب، ضارب الطبلة المغلَّفة بجلد النمر فوق حصانه و نقول في سرِّنا : كيف يقود حصانه من دون أن يُمسك بلجامه! ثم تأتي شلَّة من المُشاة فتدمع عيوننا و نحن نُحسّ لرؤيتهم بالعزَّة و المتعة .. ثمَّ .. ثمَّ بالفرحة.و يصل موكب أرباب المهن الشعبية حيث يتقدم كل " معلّم " صفوف تلاميذه و أولاده و هم يرفعون بعض أدوات مهنتهم أو يمارسون المهنة تمثيلاً في موكبهم المتقدم في شوارع المدينة. و يمضي يحيى حقي في تداعياته التأملية المستعذَبة، فيصوّر بأصالة و روح مؤمنة استقبال الناس في أيام طفولته البعيدة لشهر رمضان المفعَم بالبهجة و روحي التآخي و التجليات الجميلة، بلغةٍ فصحى حيّة قادرة على نقلكَ إلى ما كان عليه الشهر آنذاك من حالٍ تُسرّ الخاطر و تُمتع الواحد منا بذكرياتها أو تخيلاتها الجميلة.
أديب في رمضان
نشر في: 23 أغسطس, 2010: 06:06 م