اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > مـن يـومـيـاتـي 6

مـن يـومـيـاتـي 6

نشر في: 13 نوفمبر, 2023: 09:57 م

زهير الجزائري

حارس الخراب

أحرس الخراب.. هذه هي مهمتي الليلة. استلمت مناوبتي من حارس يلبس الكمامة. وكانت كلمة السر بيننا هي الصمت وحده. في التاسعة خلت الشوارع و أطفئت المولدات و البروجكترات، وتوقف صرير حديد الرافعات. ولم يبق في شارع الزلزال غيري والخراب. آنذاك تسلق روحي هذا الحلم المخيف الماثل أمامي.

في ساعة متأخرة اندس إلى جانبي عامل من المطبعة.. قال لي انه لم يستطع النوم بسبب الرائحة والكوابيس. صبّ لي الشاي وبقي لفترة صامتاً يرتشف الشاي ويراقب فوهة المطبعة. ثم جرني بإلحاح عجيب ليريني كيف مات رفاقه في العمل. تتبعت بقلق ضوء المصباح اليدوي المرتعش يخترق الظلمة و التجاويف:

- هنا استشهدت سميّة.. هنا تحت هذه الصخور.. وصلت حتى منتصف الشارع.. ثم أعادها الصاروخ الثاني. أيؤلمك الحديث عنها؟.. أنا أيضاً. عندما أتصبح بابتسامتها الصبورة، بصراحة، كنت أحسد زوجها.. أتذكرها بثوب الزفاف.. كأنها الآن أماً.. لا أصدق! جفف دموعه للمرة الثانية وأخذني نحو جوف العمارة. لماذا كنت طيعاً إلى هذا الحد؟ أردت أن أذهب بالكابوس حتى نهايته، لعلي أعيه و أجرّده من تفاصيله المرة إلى سبب ونتيجة. دائماً تتبدد همومي لكن الناس ن انقطع عم بيقنا الكم - أية مش إلى سبب ونتيجة.

- هنا قتل محمد الصغير. وهنا ابو الغضب، ومن هنا سقط سمير.

كنت أتتبع مساقط الضوء بحركات حادة ومع كل التفاتة يطعنني وجه.. وجوه لمّاحة خاطفة، دامية أو جريحة في ثنايا الخراب. وجوه تسقط فجأة في هاوية تماماً بين حاجبي. و للحظة خيّل لي أنني أسمع صرخة واهنة للمنكودين الذين دفنوا في سرداب البناية وأغلقت عليهم الحجارة كل منافذ النجاة.. دقوا السقوف والجدران بقبضاتهم العارية حتى هدهم التعب فقالوا كلمتهم الأخيرة للرب.

أغمض عيني لأسترجع، بتعمد مشدد، تلك الحياة الدائبة المتصلة التي كانت تسري في البناية: أناس يصعدون وينزلون، صبايا يغسلن السلالم، تلفونات لا تكف عن الرنين، و الضاربات على الآلات الطابعة تتحرك أصابعهن برشاقة الراقصات.. ثم أفتح عيني فأعود للكابوس الماثل.. كانت الحياة إذن مجرد وهم أو صدفة؟ لن ترى كل تلك الوجوه. فقد انقطعت الوشائج معها حينما انهدّت بناية روحك.. طويلاً حدّقت بالبناية... لا أريد أن أصدق أن الحياة بهذه الهشاشة، وأوشكت أن أقلق سكون الليل بصرخة حادة طويلة: انهاااا حياااااتي.

بدأت أجمع مادة الكتاب الوثائقي الذي سأعّده عن الكارثة.. أردت من خلال أحاديث الذين نجوا أن أصل إلى اللحظات الصغيرة الساهية التي سبقت الانفجار بثواني، ثم اللحظات التي تلته.

.. لكن الناس لا يملكون من الأحاديث ما يشبع خيال الكاتب. أغلبهم قال لي انه انقطع عن الحياة بعد لطمة هائلة أصابته ثم صحا على سرير المستشفى.

رفيقنا الكردي قال باختصار:

- أية مشاعر!؟ كنت في الطابق السابع فوجدت نفسي على الأرض..

- وخلال ذلك؟

- لا أعرف... لم تكن لدي أحاسيس.. فقد كنت أبحث عن شيء أتعلق به أو أرض أثبت أقدامي عليها. .

طوال الوقت كنت أحوّم حول رقعة الخراب التي ترفع الجرافات جدرانها. وبين فترة وأخرى يأتي الناجون من المستشفيات على عكازات أو بأذرع مجبرة و مدلاة.. يدورون حول البناية بذهول، لا يصدقون ما حدث. يبحثون بين الأنقاض عن سقف كان يحميهم أو أرض مادت تحتهم، ويحاولون ربط المسار الذي انقطع.. هذا الشارع الذي حفظوا وتمثلوا كل تفاصيله انفصل عنهم تماماً. فالخراب الذي هبط عليه وافترش أرضه أنسانا تفاصيله السابقة. كأن الحياة التي كانت تدب عليه تمت إلى زمن بعيد بعيد. من يتذكر باعة الخضار الطازجة و النوفوتيه وباعة العصير؟ لكأن الشظايا التي أصابت كل قطعة فيه أصابت زجاج ذاكرتنا أيضاً.

ذات ليلة تجمعنا فـي مـوقـع واحد وأردنا أن نبدد الكابوس العالق بأرواحنا. غريزتنا دلتنا إلى الضحك والصراخ:

- أرأيت كيف دفع البدين الجدار بعجيزته؟

-وهذا الذي هوى من الطابق الرابع..

- أتدري ماذا فعل حين مست قدماه الأرض؟

- بحث عن فردة حذائه الثانية!

- والمحاسب كان يصرخ: فلوس الرابطة!

بين الذين التقيتهم تلك المرأة التي كانت تقطع الملوخية في شرفة البيت، وأمامها أطفالها الصغار يقلدون ما تفعله.. لقد رأت الطائرات لحظة النزول.. آخر ما رأته أطفالها ينقذفون عالياً مع أغصان الملوخية التي بأيديهم. بائع الخضار الواقف تحت البناية رآهم وقد طوح بهم ضغط الانفجار. لقد انقذفوا كحبات قمح طشها بذّار.. الحياة نفسها انفلقت في هذه البناية وخرج الموت من أحشائها خاطفاً و مخطوفاً.. تذكرت مشهداً في فيلم "المدرعة بوتمكن": ينشغل الشاب الجريح على سلالم "أوديسا" عن جرحه بعربة الطفل التي تتدحرج فوق السلالم.. تذكرت هذا المشهد وأنا أسمع حكاية مشابهة من طفل سقط من الطابق الخامس. قبل أن يتحسس ألامه أو يطلب النجدة رأى عجوزاً تعلقت بأسانسير الطابق الرابع.. كان الدم ينزف من قدميها، ومع ذلك تجمعت كل قوة الحياة بأصابعها... أين ذهبت تلك العجوز؟ هل صرخت؟

وأنا أبحث عن أوراق فقدتها، صدمني وجه شاحب أشعث:

-هذا أنا!؟

أردت أن أرى في مرأة الحلاق المحطمة وجه المرأة التي ابتسمت بارتباك، خجلة من شحنة الجمال التي أضافتها أصابع الحلاق البارعة. رأيت شيئاً من دم المرأة والحلاق على قطع المرايا المتناثرة بين الحجارة. ولكن، أية قطعة من تلك المرايا لم ترد أن تريني، ولن تريني، ما هو شكل الموت حين يباغت امرأة على كرسي الحلاق..

أتعبنا الحزن والبحث عن الوجوه، أتعبتنا مرارة الفم والذاكرة المثقلة برائحة الموت، أتعبنا نصب الخراب الجاثم هذا فقررنا أن نمنح الكارثة معنى صعدنا البناية بخفة وعلقنا علماً لفلسطين و آخر للبنان على كل نافذة قذف منها طفل، وكل شرفة هوت بمن فيها.. خلال ساعات غطينا البناية بالأعلام ووقفنا قليلاً عند دكان الحلاق، رأينا في المرآة الخصلات الشائبة التي ابيضت خلال عقد طوله أربع أيام.. ثم كتبنا على الجدار: "ومع ذلك سنصمد!".

أرفع رأسي عن الورق وأحل أعصاب وجهي المشدودة فتصدمني وجود الأطفال.. منذ متى كانوا واقفين بهذا السكون، يتفرجون على الرموز السحرية التي يتركها القلم على الورقة:

- هل ستقصف الطائرات المخيم؟

سألني الطفل الذي أراد أن أعلّمه قراءة كتاب "كيم إيل سونغ<<.

.

- لماذا هذا السؤال، أنت خائف؟

- كل الفدائيين انتشروا مبكراً.

- إذن هناك احتمال بأن تأتي الطائرات.

هل عكرت أمن الصغار؟ أبداً، فبعد قليل سيصعدون تلة التراب ليقصفوا المخيم بطائرة صنعوها من غطاء مرحاض.. لهم سأترك أوراقي هذه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القبض على عشرات المتسولين والمخالفين لشروط الإقامة في بغداد

لهذا السبب.. بايدن غاضب من صديقه اوباما 

في أي مركز سيلعب مبابي في ريال مدريد؟ أنشيلوتي يجيب

وزارة التربية: غداً إعلان نتائج السادس الإعدادي

التعليم تعلن فتح استمارة نقل الطلبة الوافدين

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram