اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > رياض النعماني: على الشاعر ان يكون شرساً في الدفاع عن موقفه وفكره

رياض النعماني: على الشاعر ان يكون شرساً في الدفاع عن موقفه وفكره

نشر في: 13 نوفمبر, 2023: 10:02 م

حقيقة ان الشعر كان ينسيني التعب والخوف وانا الصبي الذي لم يتعود الغياب عن بيت اهله

حاوره/علاء المفرجي

- 1 -

من مواليد محافظة واسط (الكوت)، عرف الشاعر رياض النعماني حياة المنافي وقساوتها منذ عام 1979،

فلقد توزعته بين بيروت ودمشق ومدن أخرى حتى استقر في الدانمارك منذ بداية التسعينيات. يعد الشاعر رياض النعماني أحد الشعراء الذين ظهروا على الساحة العراقية الغنائية على يد الملحن العراقي كوكب حمزة عندما لحن له قصيدة (غنت احميمة) والتي غناها سعدون جابر، كان ذلك في الربع الأول من العقد السبعيني القرن المنصرم، توالت بعد ذلك الكثير من الأعمال بين الشاعر رياض النعماني وأستاذه الملحن. المعروف عن رياض النعماني، إنه شاعر محب للنقد، لأنه يعتبر أن النقد هو الدافع المهم لتطوير موهبة الشاعر، لذا نجده وفي كثير الأحيان يعرض قصائده على أصدقائه من الشعراء والكتاب والفنانين قبل أن يعمد على نشرها.

والشاعر رياض النعماني من مواليد مدينة النعمانية التابعة لمحافظة واسط، عاش حياة المنافي وقسوتها منذ عام 1978 والتي شهدت محطات عديدة بينها بيروت ودمشق ومدن أخرى الى عام 1987 ليستقر في الدنمارك"

في مطلع سبعينيات القرن الماضي حيث قصيدته المغناة (غنت إحميمة) والتي استبدل عنوانها بـ (لأغسل هدومي) بعد اعتراض مسؤول الإذاعة آنذاك على العنوان الأصلي. لحنها كوكب حمزة وغناها سعدون جابر ولقيت انتشاراً واسعاً ومهدت لتعاون بين النعماني وأبرز ملحني ومغني العراق منهم، طالب القره غولي، حميد البصري، جعفر الخفاف، كمال السيد، سامي كمال والسوري كمال حميد وغيرهم. وقد ردد العراقيون الأغاني التي كتبها الشاعر النعماني من بينها "شيلي تمر بالليل" و"أخاف عليك" و"يوم الما أشوفك" و"بساتين البنفسج" و"عيني ياعراق"، لحن معظمها الملحن كوكب حمزة.

للشاعر عدة دواوين أو مجاميع شعرية، "إمام الورد" وديوانه "مقام الفيروز" الذي أصدره عام 2017. وديوانه الأخير "رذاذ على جبين غزالة".

النشأة والطفولة، والمكان الذي أسهم في أن تتحدث شعرا، وما هي المراجع والمصادر التي ألهمت شاعريتك في الطفولة؟ حدثنا بإسهاب عن تلك الفترة؟

- في سنوات اولى كنت لا افهمها جيدا.. وانا في بستان العائلة المترامي والمتنوع الذي ظل على الدوام يدهشني اتساعه وتنوع اشجاره، وامتزاجه بنهر دجلة كنت اجدني في ما يشبه الغيبوبة وانا في ظل شجر عميق.. عميق يثير في، ويوقظ تأججا لا افهمه، يُحدث في كياني اشتعالات وتيهان والتذاذ وتوهم وغبطة احيانا تنيمني وانا جالس متكئا على جذع شجرة تفاح او برتقال... كأن المكان ايقاع ادخل في محيطه ومناخه وتشكلات اصواته وروائحه وصمته العميق الشفاف،.. اذهب بعيدا _غافلا عن كل شىء _ في مسرة وزرقة اصوات الحمام والفاختة الحارة فهي تشبه غموض انسكاب فجر الندى على توهج رذاذ يتناثر من محيط حبة برتقالة مثلا او كثافة ليمونة تشتعل في فضاء الشجرة والمكان.

كان مشهد آثار والوان ما يتركه نثار الرمان المنفرط على ثيابي يبعث في دهشة ملونة عذبة.. لكنها مخيفة لانها تسمعني صوت امي وهي تتعذب من عدم قدرتها على محو ذلك الآرابيسك اللوني الآلهي من الثوب.

إلتذاذ هذه الحالة كانت تصيبني بتعب غبطة.. لها مزاج.. وحرير، تذوق شيء ما اطل عليه في نفسي (طبعا ان اميل الى الروح كتعبير مضىء اكثر من النفس التي تقترن عندي بالظلمة والكثافة)... وكنت ألمس تعبي هذا بيدي واراه.. لكن ليست لدي القدرة على دفعه او القفز عليه، تقف سيارة والدي العائدة من البستان بجوار باب البيت فأراها تمتد امام ثقل تعبي مسافة طويلة... امي بعيون سوداء عميقة، مفرطة الحنان ومتوهجة تلمحني فتسألني: إشبيك؟

صاير مثل النوميه

تعبان اجيبها.. واذهب الى سريرها لانام.

النعمانية التي ولدت فيها.. وُلدت هي ايضا علي شاطئ دجلة في محيط من البساتين (اختفى منها الكثير الان).. واعتقد ان طغيان الروائح في شعري سببه هذا.

النعماني كانت مغلقة بمحيط بساتين يتكرم عليها بفسحة تطل منها على ارض فسيحة ينمو فيها رشاد البر بالمذاق الحاد اللافح ونبات اسمه (الكوكله، ونباتات برية اخرى، زهور صغيرة بتيجان مسرفة التنوع) تشتعل في الربيع فتشعل الارض بتنوع لوني هائل.. أتامله فأُّصاب برعدة وهزة، ورعد يخض كياني كله.. هذه الجغرافية المفتوحة تتصل بعد مسافة ليست بالبعيدة جدا بمنطقة ريفية أسمها (عوينة)

هذه المنطقة التي نظمها شيوعيو المنطقة المحيطة فشهدت مقاومة ضارية لقوات الحرس القومي بعد انقلاب 1963 الدموي،.. ظل جيلنا وعموم الناس يتحدثون بزهو عن شجاعة وقوة فلاحي عوينة، ومأثرة مقاومتهم تلك.

تشكلات تلك المنطقة، وعناصرها (عذوبة وانثوية البساتين وشراسة وذكورة عوينه كنت اراها تتكامل في رسم وخلق هوية ذلك المكان وبالتالي ولادة الانشاء الأول لطبيعتي الاولى الشعرية.

يبدو لي أنك التقيت في بواكير حياتك، بالشعر والسياسة في آن واحد، في بواكير حياتك، هل قادك الشعر الى السياسة، ام دفعتك السياسة الى نظم الشعر كوسيلة للتعبير عما في داخلك؟

- في العام 1963.. عام المذبحة الرهيبة، التي اغرقت العراق بشكل عام في مجهول دامي، وخوف تلك الفترة المرعبة، وشتاء تلك السنة وهو (اقسى الشهور.. كما كتب ت. س أليوت في قصيدة الارض الخراب) الذي يتجمد من فداحة برده فيجمد الهواء على الاصابع التي تلمس قسوته وشراسته بوضوح ألم فادح، قادني ما لا أعرفه وبسرية تامة الى فضاء القصيدة العمودية التي كانت مهيمنة في ذلك الأوان.. فهي الصوت الشعري الوحيد الذي يشكل وعي وحساسية وذائقة مدينة (النعمانية وهي قضاء تابع لمدينة الكوت) تنفعل وتشارك به وتردده في بعض المقاهي والمجالس الخاصة والدواوين المنتشرة انذاك اذكر على سبيل المثال لا الحصر ديوان بيت (شكوري)

وديوان بيت قرطاس الذي كان يضم عددا من الشعراء (محمد علي الياسين، وعبد الحسن قرطاس، واعتقد محمد حسين العلاق، وعلي ابراهيم الخطاوي) ومحمود جبارة، والاساتذة عبد السلام ابراهيم، وسعد عبد الامير الذي يكتب الفصحى والعامية.

في تلك الفترة المنطفئة والمشتعلة ايضا كتبت لأول مرة قصيدة عمودية لوالدي الذي كان سجينا في سجن نقرة السلمان، وكانت هي وعدد من المحاولات بناتٍ للمشاعر المندفعة العارمة المتحدية البدائية ولكن المفتقرة تماما لوعي مشاكل الكتابة.. بعد فترة قصيرة تركت كتابة هذا النوع من الشعر ولم اعد اتذكره تماما.. وتورطت جديا وعمليا في لهب السياسة التي ميزت مزاج ما بعد منتصف الستينات.. حيث كان صعود موجة التيار والوعي اليساري العالمي مأخوذا بمثال فيتنام والثورة الكوبية وحركات التحرر والكفاح المسلح في اهوار جنوب العراق و افريقيا واميركا اللاتينية حيث تجربة تشي غيفارا التي الهمت شعوب العالم.

وقد تكون طبيعتي الشعرية هي من كانت تطربني وتمزجني بفكرة الالتحاق بالأهوار، وكنا الشهيد الفذ عبد النبي رسول (من مدينة الصويرة) والشهيد المقاتل الباسل أنعم عبد الصاحب محمود نمضي الليل ونضيئه بترديد بعض القصائد العامية لمظفر النواب وكاظم الرويعي على سبيل المثال.. في ذلك العمر والتوهج والاندفاع كنت اشعر بغبطة مذهلة تمزجني بهواء ذلك الليل وضوء نجومه وقمره الواسع في انفتاح تلك البرية.. القاء الشعر كان يقربني اكثر من الفرس التي كنت اتناوب على ركوبها الشهيد انعم وانا.. وكان معنا في ذلك الليل الطويل المكتظ بالحذر والترقب ومخاوف المداهمات السلطوية صديق اسمه بشير حسن.

حقيقة ان الشعر كان ينسيني التعب والخوف وانا الصبي الذي لم يتعود الغياب عن بيت اهله... وبينما انا مع المجموعة الصغيرة نتجه نحو الجنوب، كانت امي ملتاعة تبحث عيني كالمجنونة في البساتين التي تقع في اطراف المدينة.. وتصرخ بأسمي ظنا منها انني مختبئ هناك.

قُطع علينا الطريق وعدنا فكانت السلطة تنتظرنا بذئابها المتوحشة في مديرية الامن وكانت تجربة مريرة.. حيث واجهنا انعم وبشير وانا ولاحقا استاذ مفيد الامامي بن اخ الشهيد الجسور ماجد محمد امين

(رفيق الزعيم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي) لأول مرة ضباعا لا تمت للقلب البشري ولا للنبل بأية صلة... اذكر للحقيقة التاريخية.. بعثيان من مدينتنا هما رزاق عبد الحمود وعلي نافع قد جاءا لمديرية الامن يتوسطان لمساعدتنا.

لكن والدي الذي جاء ليستلمني وجد آثار الدماء على قميصي وفانيلتي الداخلية... قال لي ونحن في طريق العودة (الله بنفسه لا يستطيع تقويم اعوجاج التاريخ البشري)

الشعر لا يسمح بالنكوص، هو أيضا يطلب التضحية بل والألآم، كي تتواصل فيه الى النهاية، الشعر "صعبٌ وطويلٌ سلّمه" كما قال شاعر قديم. هل يبحر رياض النعماني الى النهاية؟

- سؤالك هذا بما يتضمنه من بساطة ظاهرة.. الا إنه يضىء ويلامس روح وجوهر ماهية الشعر في تعببراته الاولى.. اذ ان ما يغفله الكثيرون هو إنك كي تكون شاعرا حقيقيا عليك ان تأتي اليه والى العالم بعدد من مقومات واستعدادات وقيم فريدة. تريد منك ان تكون روحا هائلة قادرة على المجابهة الصعبة للواقع وتجاوزه الى ما بعده او فوقه، وان تكتشف في روحك قرابة للكون وانتساب خاص له.وان هناك وحدة بينكما هي اصل الوجود الاول لكما قبل ان تحدث انتكاسة الانفصال التي وصلت الى انفصالك انت عن نفسك وانشطارك التراجيدي المأساوي.. الشاعر يحتاج الى اعماق هائلة، شرسة وبريئة في ذات الوقت كي تحاول ان تعيد اللحظة الي عاشها الانسان البدائي عندما كان يقطع طرق الحياة يدا بيد مع الخالق قبل خلق التاريخ.. هذه المهمة الكونبة ليست كلاما عابرا او انشاءا شفاهيا لا قيمة معرفية له، بل هي الوظيفة التي جاء

من اجلها الشاعر كي يستعيد العالم والانسان وحدتهما ووعيهما وبرائتهما، وهذا يتطلب من الشاعر ان يكون شرسا في الدفاع عن موقفه وفكره وان يمتلئ بعلو وهيبة سلطته التي لا تتردد ولا تشعر انها اقل من اية سلطة سواء كانت سلطة (دين او مال او سياسة).. كل هذا ينبغي ان يكون وعيا عموديا لدى الشاعر وبنية كلية لهذا الوعي تفرض على الشاعر ان يكون على استعداد تام لتحمل جميع انواع العذاب والالام والتشرد والمعاناة.. من هنا كما اعتقد قال الناقد بلوم في كتاب (الشعر كيف ندرسه ونتذوقه):

الشعر هو الالام التي ترافق عملية تحويل الدم الى حبر.

والشعر والتقافة الحقيقية يحتاجان بعد ذلك الى تجرد كبير تجرد كبير وزهد حياتي عميق، واشمئزاز من السلطة ونبذها وعدم الاقتراب من مشاريعها المرواغة... اذكر مثلا لهذا العفاف (هادي العلوي وادونيس وعبد الرحمن طهمازي ومظفر النواب)

حتى النهاية كما قلت يا صديقي.. حتى النهاية التي لا تنتهي ينبغي ان تستمر مقاومة المبدع.

قلت مرة " هذا الشعر أصبح الان صورة حقيقية لانحطاط الحياة العراقية " تقصد هنا الشعر العامي، طبعا ترد بعض الاستثناءات، فالتحديث عند الكثير في هذا المجال يقتصر على مظفر النواب، وهم " لا يعرفون ما عمله مظفر من تجديد وعمق" كما تقول وتضيف " الشاعر اذا لم تكن لديه رؤيا حديثة لا يمكن ان يكتب شعرا حديثا".. اين تبدا الحداثة في الشعر العامي، وبمن تستمر برأيك؟

- لم يعد الانحطاط كقوة تخلف ضاغطة تعيد الحياة العراقية الى زمن تنعدم فيه شروط وعوامل التنوير.. والتطور، خافية، او تحتمل التأويل، فالتنوير بمعناه التاريخي الذي يتناقض مع الانحطاط والتخلف لم يتبلور في العراق كبنية مدنية حضارية (على الاقل في المدى المنظور)

الآن العراق وبشكل حقيقي مهدد بمستقبل الانقراض.. لان ما يجري اليوم وما نراه يؤكد ذلك، الانقذاف المروع نحو ظلمات الماضي الميت واوضار واحقاد الطائفية، والاصرار المرير على اثارة الآخر، واستفزاز مشاعره وقيمه بمناسبة وغير مناسبة، والتشبث البشع بالخرافات والخزعبلات و اكتشافات يومية مضحكة لمخاريق وشخصيات واضرحة تحول اي تجربة واية بلاد الى محض مسخرة.. مخيفة جدا معاداة المستقبل _ بكل تعبيراتها الحاصلة اليوم _ ما اعتقده اننا جميعا الا القلة نرى ونلمس ونعيش المشروع الكياني الكلي البنيوي لتهديم العراق (طابوكه طابوكه) والذهاب به نحو الانقراض.. في هكذا نظام و مناخ سياسي وجودي معادي لجوهر التنوير وروح العلوم واكتشافات الابداع واسئلة التحديث وهو تمثيل حي لمكونات الفترة المظلمة الحقيقة لم تعد تطرح اسئلة الحداثة ومشكلات المستقبل والحرية والرؤية المغايرة، والمغيرة في الحياة العراقية عموما.

وفي حركة الشعر العامي (وانت اسميته الشعر العامي وهي التسمية الصحيحة التي لا يزال يجهلها الكثيرون حتى من المثقفين) فأن ابعاد هذه المأساة الثقافية صارت مرعبة في عراق العشائر والميليشيات والمسؤولين الاميين الذين يدعمون - مثلا - وينشرون برامجا تلفزيونية تبشر بأمية النص العامي وتحتفي بهستيرية وتخلف اصحابه، هناك تيار يسود منذ ايام صدام حسين تُمجّد فيه ظاهرة الصراخ وشق القمصان على المنصة.. ولك ان تتصور حالة هذا الشعر اليوم حيث (يكاوم) شعراء الميليشيات والعشاير كل من يحتفي بالحداثة ويتوجه بالنقد

لظاهرة الشعر الامي، المتخلف الميليشياوي العشائري الذي يمجد قيم العنف والطائفية، وعادت وطقوس لا تخلق ولا تدعو الا الى بغض الآخر والدعوة لإقصائه من خارطة وتاريخ العراق... هذه الاجواء التي لا تمت بصلة يا علاء فأن الحداثة هي نظرة وموقف لفكرة الشعر والنظرة المستقبلية، والحداثة بصلة تجد تغييب متعمد لشعراء الحداثة اذكر على سبيل المثال لا الحصر (طارق ياسين، كاظم الركابي كريم محمد، علي الشباني، عزيز وشاكر السماوي، ابو سرحان، ناظم السماوي، حامد العبيدي، كاظم الرويعي، زهير الدجيلي، يعرب الزبيدي) اضافة الى شعراء السبعينات الذين واصلوا تيار التحديث.

لكن برأيي الصميم ان مظفر النواب هو المجدد الحقيقي الأهم للقصيدة العامية (بنية ورؤيا وموقف لغوي كلي جديد)

مظفر النواب قام بعملية تحديث وتغيير جمالية وفكرية هائلة.. لقد قام شعريا بتحويل الريف الى مدينة... عكس ما شاع ويشاع الان من تكريس لفكرة وقيم المضيف والعشيرة وعادات واعراف الريف المتخلفة

طارق ياسين يقف وراء مظفر في ثقافة التطوير والتحديث بقوة، انه صاحب رؤيا بأمتياز.

طبعا هناك في آتون هذه الحياة الشعرية الكالحة شعرا جديدا صميميا ناصعا يقاتل بقوة ونبل الشعراء الحقيقيين يكتبه شعراء شباب جدد علينا جميعا ان ننتبه لجهودهم الرائعة وان نحبهم وننتمي الى نتاجهم الابداعي الذي سيضيئ لنا ليس فقط منجزات الحداثة الاولى، بل وسواحل المستقبل القادم. بعد كل هذا يا علاء فأن الحداثة نظرة وموقف وطريقة حياة ومعرفة.. انها خرق واكتشاف وتخطي دائم.

تكتب قصيد النثر وقصيدة التفعيلة مثلما تكتب القصيدة العامية، ما الذي يحكم شكل النص عندك؟ طبيعة موضوع النص، أم أنك غير مسؤول عما تتجلى به قريحتك؟

- عزيزي علاء.. كيان الانسان صورة عن الكون فهما يتماثلان بنية ببنية، ومثلما نرى مقدمات اي تغيير او تبدل في عناصر الطبيعة الكونية مثل شميم الغيم وتغير لونه في بعض انواع القدوم البعيد لهواء بارد.. منعش فنتوقع هطول المطر.. وطبعا إن تجربة ممارسة الطبيعة هذه تُدرّب تطور نوع من الحاسة او الغريزة عند الفرد تبلور لدية قوة نزوع اختراق الزمن للقاء التاريخ البدائي الذي يشبه في صفاء اجواءه مناخ ولادات الشعر الاولى قبل تلوث العالم.

انا يحدث لي تبدل في كياني ولو تبدل خفيف قبل كتابة اي قصيدة، وفي هذا يستوي عندي مجىء القصيدة العامية او الفصحى، وبما إن القصيدة طريقة للذهاب الى ما وراء الواقع او اعلى منه، فهي تفترق عندما تكون فصحى عن العامية.. ففي الفصحى تأخذك احيانا غيوب واشارات ولا مرئيات وانساق النص الى نقاط وتجارب في الكون قصية جدا.. غامضة يصعب حتى على الشاعر نقل عالمها الى الورقة، او الى الاخرين.. وهذا الموضوع يرتبط ببنية وطبيعة وثقافة الشاعر، فالشاعر الذي يجد في اعماقه الداخلية نوعا من التفتح والتهيؤ للقاء الاعالي والجوانب الخفية واللدنة في الوجود تراه يرحل في عوالم روحية خاصة وبعيدة جدا تتعلق بالجانب السري او كما نسميه الصوفي في تجربة الكتابة فترى لديه مستويات من الكلام والتجربة الفريدة الغامضة التي لا تجدها حتى عند الشاعر المثقف لكن الذي لا يتوفر في تكوينه الروحي على جانب التهيؤ الخاص للتفتح ولقاء المستوى الطري اللدن الكرستالي في الكون.

الشاعر في كلا تجربتي الكتابة العامية والفصحى هو في استقبال تنغيم حركة روحه وكيانه وارتفاعاته التي تتشكل مع مقدمات هبوب لحظة الكتابة. ولكن درجات الوصول والكشف والاسرار وخصوصية المعاينة اللغوية تختلف في القصيدة الفصحى عن القصيدة العامية.

برأيك هل تضاءل الاهتمام بالشعر، أمام سطوة السرد/ الرواية في العقود الأخيرة، وخاصة في المشهد الادبي العراقي، الذي خلال العقدين الأخيرين اجتياح واضح للرواية كتابة وقراءة؟

- في سفر او رحلة الكائن، وقد انطوى على تجارب كثيرة، ومعارف وجودية كبرى هي خلاصات فريدة للوصول الى جوهر الحقيقة تنفتح وتنبسط ارض الرؤيا امام زمن الكشف الذي تستلزمه مناخات الكتابة المتنوعة والتي تظل تقترب في سيرها واتجاهاتها من لحظة العناق والتوحد العالي في نبرة البيان الابداعي الجميل فيكون الشعر فضاءً للنثر الجديد.. والنثر توهجا لا يتوقف عن تجليات الشعر... كل شىء في هذه البرهة يصبح إيقاعا تتلاقى فيه جميع جهات الروح الابداعية وتقترب في انواره وتتواشج الانواع الفنية المتنوعة، وفي هكذا مستوى من وجود العالم تكاد تنمحي فوارق التعبير فيغدو التعبير لغة تكاد تكون واحدة في مقاربة حقائق العالم.

تزود بقوة الخيال الخلاق واستبصر معمار وجغرافية الانواع الادبية التاريخية العظيمة.. ستجد وحدة كبيرة توحد الاعمال العظيمة.. انفتاح مضيء يفتح المشهد الكلي على اعماق وهيبة البنيان والمكان (اعمال المتصوفة، الملاحم التاريخية، بنية الاساطير، وحتى اشكال العمارة فأنها تواصل انفتاحها وانبساطها على اللامحدود)

ما اريد ان اخلص اليه هو عكس ما ينشر ويتداول ويفترض من اختلاف وتقدم وتراجع السرد والشعر.. كلاهما يندس في خلايا الآخر ويضيئه بأستارات وادوات تأويل ومجازات لا تحصى. قد يشهد المستقبل البعيد نوعا آخرا تبتكره العلاقة الايقاعية المصيرية بين السرد والشعر. المستقبل لوحدة الانسان والكتابة الخلاقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram