اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > عام > هل ستنجو الرواية من تأثيرات العلوم العصبية؟

هل ستنجو الرواية من تأثيرات العلوم العصبية؟

نشر في: 14 نوفمبر, 2023: 11:16 م

أوستن آلن*

ترجمة: لطفية الدليمي

معظم الاعمال الروائية تتعامل في حقيقتها الجوهرية مع لغز الشخصية Character. دعونا نتخيّلْ ماالذي سيحدث لو أنّ العلم فكّك – أو على الاقلّ شارك في تفكيك - مغاليق هذا اللغز؟

كتبت فيرجينيا وولف مرّة:

« عانت الشخصية الانسانية تغيّراً جوهرياً في ديسمبر (كانون أوّل) عام 1910 أو قرابة ذلك التأريخ «.

هذه ملاحظة تنطوي على غموض مقصود؛ لكنّ وولف كانت تشيرُ على نحو عام يخلو من التخصيص إلى موجة من الحداثة الثقافية التي سئمت العالَم المستكين - المكتفي بنفسه - الذي ساد أوربا أواخر القرن التاسع عشر – ذلك العالَمُ الذي لاحت أولى تباشير تشظّيه إلى عالم متصدّع قريباً من التأريخ الذي حدّدته وولف. كانت العناوين الرئيسية لهذا العالم الجديد: فرويد، آينشتاين، بيكاسو، الحرب العالمية الاولى (1).

تفكّرتُ ملياً في عبارة وولف في شهر ديسمبر الماضي (الحديث يجري في عام 2011، المترجمة) عندما قرأتُ مقالة في صحيفة النيويورك تايمز حول مسعى أحد علماء الاعصاب لوضع خريطة عصبية للدماغ البشري بكلّ ارتباطاته الشبكيّة المعقّدة. هذا السعي ليس سوى أحد الجهود المثابرة الاخيرة في ثورة علمية ترمي لفهم الذات The Self، ومن المقدّر لهذه الثورة الجديدة أن تدفع الثورة الادبية التي أحدثها فرويد أشواطاً إلى الخلف لتبقيها مركونة هناك في ذاكرة التاريخ المنسيّة. أتساءل بعد مايقاربُ القرن من تصريح وولف التاريخي: هل أصبحنا نشهدُ بوادر ثورة ثقافية أعظم من الثورة التي أحدثها فرويد ومعاصروه من مفجّري الثورة الحداثية؟

الآثار المترتّبة على الثورة الثقافية الجديدة التي لم تزل في أطوار النشأة الأولى صارت تلقي بظلالها الكثيفة على العقل، أو في أقلّ تقدير - وعلى نحو أكثر تحديداً - صارت تمارسُ سلطتها الطاغية على الفص الجبهي Frontal Lobe من الدماغ البشري. بات من البديهي أن نتساءل ونحنُ في خضمّ اللجّة العالية لهذه الثورة: كيف يمكنُ لأدبيات عصبية خاصة بالدوافع البشرية ومحكومة بالحتمية المسبّبة أن تغيّر آراءنا الجوهرية بشأن (الذنب Guilt) أو (البراءة Innocence) أمام القانون؟ كيف يمكنُ للفهم الدقيق على المستوى الجزيئي لما يحصل في خلايانا الدماغية (مايسمّى البيولوجيا العصبية Neurobiology) أثناء الانجذاب العاطفي لشخصٍ ما أن يعيد تشكيل أنماط الارتباط البشري؟ (أظنُّ أنّ هذا الفهم الدقيق سيشعلُ مايشبه سباق تسلّح بين الشركات المصنّعة للعقاقير). ربما السؤال الاكثر جوهرية وأهمية من منظور رؤية وولف: كيف يمكن للمعرفة العلمية الدقيقة بكيفية عمل أدمغتنا أن تغيّر ذائقتنا الادبية وطريقة تعاطينا مع الادب؟

كلّ الاعمال الروائية تتأسّسُ في جوهرها العميق على الطبيعة الملغّزة للشخصية البشرية. تتجلّى متعة الكتابة الروائية (التخييلية) في أعاليها القصية في ثلاث مهمّات:

- الاولى تحليلُ الكيفية التي يحصل بموجبها السلوك الانساني.

- الثانية هي التأمّلُ في جذور الدافعية المسبّبة لهذه الأنماط من السلوك؛

أما الثالثة والاعلى مقاماً بين كلّ المهمّات الثلاث فهي مساءلة واستكشاف الافعال البشرية. هنا من البديهي أن نتساءل في هذا الطور من الارتقاء البشري: ماالذي سيحصلُ لعالم الادب (الكتابة الروائية بالتخصيص) لو أنّ العلم ساهم بشكل رئيسي في الكشف عن طبيعة المهمّتين الأوليّتيْن، وقلّل من مشروعية المهمّة الثالثة (بمعنى أنّ الافعال البشرية صارت تعزى بكليتها إلى تفاعلات كيميائية دماغية تنتج أفعالاً منقادة للحتمية البيولوجية؛ الامر الذي ينسفُ فكرة الارادة الحرّة. المترجمة).

في مقالته الموسومة نشأة الرواية العصبية Rise of the Neuronovel والمنشورة في مطبوعة (n + 1) وصف ماركو روث Marco Roth العلوم العصبية بأنها « الوحش.... الذي يطاردُ الرواية المعاصرة. «. يمضي روث أبعد في مقالته عندما يحدّدُ تضاريس ذلك المدّ الذي إستمرّ لعقديْن من تضمين المرجعيات المستمدّة من الادبيات العصبية في أعمال روائيين أمثال: جوناثان ليثيم Jonathan Lethem، ريتشارد باورز Richard Powers، إيان ماكيوان Ian McEwan. هذا التوجّه قدّم لنا عدداً ليس بالقليل من روايات تطفح بشخصيات تعاني إعتلالات عصبية مشخّصة (متلازمات Syndromes في غالب الاحوال)؛ بل حتى أنّ الراوي الرئيسي في رواية ماكيوان المسمّاة سبت Saturday هو أخصائي طبي يمتهن الجراحة العصبية.

يجادلُ روث في مقالته السابقة، وبطريقة شديدة المهارة، أن الرواية العصبية حلّت محلّ الرواية النفسية (السايكولوجية): الشخصيات الروائية (ومن خلفها مؤلّفوها) التي إعتادت التفكير من قبلُ في سياق مفردات فرويدية مثل العصاب Neuroses والطاقات الجنسية Libidos باتت الآن تتحدث عن الخلايا الدبقية الدماغية Glial Cells والوصلات العصبية Synapses ومستويات السيروتونين الدماغية. الدكتور بيروني Dr. Perowne في رواية سبت هو النظير الحديث للمعالج النفسي دك دايفر Dick Diver في رواية رقيقٌ هو الليل(2) Tender Is the Night: الاثنان يُقَدَّمان لنا كسفراء ممثلين للكشوفات الاكثر حداثة في العلم وقت كتابتهما؛ ولكن بالرغم من هذه الحداثة المشتركة فإنّ المنحى الفرويدي في التفكير والمقاربة الانسانية حمل دوماً نفحة أسطورية، وفي المقابل فإنّ العلوم العصبية فاقت الفكر الفرويدي مرّات عديدة من حيث التعقيد والدقّة. خَلُصَ روث إلى أنّنا نواجه في وقتنا الحاضر « فقدان الذات «، وأنّ « الرواية العصبية - التي تبدو للوهلة الاولى وكأنها توسعةٌ لتخوم المملكة الادبية - إنما هي في حقيقتها علامة إضافية على النطاقات المتراجعة للصنعة الروائية (التقليدية) «. تبدو هذه العبارات المستلّة من مقالة روث جيّاشة بالمشاعر؛ لكنّي مع هذا أظنُّ أنها تبالغُ في تعظيم الانقلاب الحاصل في الممارسة الروائية. الرواية ستبقى كما كانت في شكلها الاوّلي على الرغم من أنّ بعضاً من المفردات النقدية والميتافيزيقية في القاموس الروائي ستعاني إنزياحات مفاهيمية كبرى لن تخفى على العقل المتبصّر.

ساهم علم النفس الارتقائي في الكشف عن بعض جوانب الغموض في لغز الشخصية الانسانية مستعيناً بالطبيعة البشرية الجمعية، وبهذا الفعل فقد ساهم علم النفس هذا في المساعدة على بيان الأسباب الكامنة وراء ظواهر عديدة، منها مثلاً: لماذا يميلُ البشر غريزياً لتكوين مجتمعاتٍ تتسمُ بتراتبية بيّنة؟ أو لماذا تختلف ميول النساء والرجال في طبيعة توجهاتهم الجنسية؟ عِلْمُ النفس العصبي سيساهم بالتأكيد في الكشف عن بعض جوانب هذه الظواهر الجمعية الملغّزة مستعيناً بالشخصية الانسانية المفردة. عندما يتحسّنُ فهمنا لهذه الظواهر فإنّ رؤيتنا لها ستتقدّمُ هي الاخرى ولن تبقى ماكثة في الاطر القديمة. أعتقدُ بصورة متعاظمة أنّ الامر سيغدو أكثر مشقّة في أن نقرن صفة (الشرير) – ولو بالمعنى الميتافيزيقي – بِـ جاسون كومبسون Jason Compson، بطل رواية فوكنر المعروفة. سنكفُّ عن النظر إلى جاسون كومبسون باعتباره هوية غاضبة تملّكها الاحباط الشامل حدّ اليأس، أو أداة من أدوات النظام الأبوي (الباطرياركي) القمعي؛ بل سنميلُ للقناعة بأنّ سلوك كومبسون ليس أكثر من عطب ما في القشرة الدماغية الجبهية الامامية. دعونا لانغفل أنّ التوصيف الاخير يُسمّي الاشياء بمسمّياتها العلمية الدقيقة؛ في حين أنّ التوصيفات الاولى جنحت إلى شكل من أشكال الاستعارة Metaphor.

في الوقت ذاته الذي نحكي فيه عن إنزياحات محسوبة في الرواية أعتقدُ أنّ الذاتية Subjectivity ستظلُّ دوماً الخصيصة الاولى المميزة لكلّ منشط فني أو أدبي. إيضاحُ حالةٍ شخصيةٍ ليس أمراُ مكافئاً للتعبير عن تلك الحالة. قد يستطيعُ عالِمُ أعصاب أن يخبرك على وجه الدقّة ماالذي يحصل في دماغه عندما يحدّقُ في أوراق خريفية؛ لكنّه على الاغلب سيعجز عن وصفها بالاوراق « الصفراء، والسوداء، والشاحبة، وتلك المصطبغة بحمرة مشتعلة « كما فعل بيرسي شيللي. ثمة أمرٌ آخر: أن يفهم أحد الأشخاص مايجري بدماغه على نحوٍ من التفصيل الدقيق لايعني بالضرورة إمتلاك هذا الشخص للوسائل أو الارادة لتغيير رؤيته أو سلوكه. هذا يعني أنّ المأساة والملهاة البشرية لن تختفيا في أيّ وقت قريب (وكذلك لن تختفي المفارقة الساخرة Irony). هل ثمّة من يتملّكه الشكّ في أنّ معرفتنا بعمل الدماغ البشري كلّما تعاظمت فلن نُعْدَمَ إختلاق طرق غبية غير متوقّعة البتّة في إستخدامها؟

عانى الادب العصبي تبعاتِ مأساة كبرى في الحياة الحقيقية قبل ثلاث سنوات (أي عام 2008، المترجمة) عندما إرتكب ديفيد فوستر والاس David Foster Wallace فعل الانتحار الناجم عن معاناة إكتئابية طويلة. المعروفُ عن والاس أنه إستكشف في أعماله المنشورة الدماغ البشري مستعيناً بأفضل وأحدث المفردات العلمية المتاحة حينها، وأظنُّ أن انتحار والاس سيبقى تذكرة مُرّة لنا بأنْ لانحنُ ولاعقاقيرنا النفسية نعرف كلّ شيء بشأن الدماغ، وطالما ظلت منطقة المجهول الدماغي حقيقة ماثلة أمامنا فلن تخفت مكانة الرواية في عالمنا. مَنْ ذا الذي يمكنه معرفة الاشكال الجديدة التي ستتقمّصها الرواية في السنوات القادمة؟

هوامش المترجمة

1. بوسع القارئ الشغوف الرجوع إلى كتابي المترجم (تطوّر الرواية الحديثة) لمؤلفه البروفسور جيسي ماتز والمنشور عن دار المدى عام 2015 للحصول على رؤية شاملة بشأن بواكير الحداثة الادبية ومساهمة فيرجينيا وولف فيها. الفصل الاول من الكتاب وعنوانه (أية حداثة؟) يتناول رؤى طائفة من الروائيات والروائيين للحداثة الروائية ومساهماتهم فيها.

2. رواية (رقيقٌ هو الليل) للروائي سكوت فيتزجيرالد نشرها عام 1934، وقد نشرتها دار المدى مترجمة إلى العربية بعنوان (... والليل رقيق).

* أوستن آلن Austin Allen: يعمل محرراً لمشروع Poetry Genius، كما عمل محرّراً سابقاً في موقع Big Think. حصل على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة MFA في الشعر من جامعة جونز هوبكنز حيث سبق له العمل فيها محاضراً في مادة الكتابة الابداعية. يقيم في مدينة نيويورك.

نشر آلن موضوعه المترجم أعلاه في موقع Big Think بتأريخ 17 نوفمبر (تشرين ثاني) 2011 بعنوان:

Will Neuroscience Kill the Novel ?

أدناه رابط المادة المنشورة:

https://bigthink.com/surprising-science/will-neuroscience-kill-the-novel/

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. د عالية خليل ابراهيم

    لا شك أن دراسة النصوص الأدبية من بوابة العلوم بمختلف صنوفها الوضعبة والعصبية تمثل أحدث صيحة من صيحات النقد الأدبي وإن امتدت جذورها إلى بدايات المناهج النقدية عند برونتير وهربرت تين اشكر الاستاذة لطفية على هذا المقال المهم وسأحاول الحصول على كتابها

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

بعد ثلاثة عقود .. عباس الكاظم يعود بمعرض «خطوات يقظة» في الدنمارك

مذكرات محمد شكري جميل .. حياة ارتهنت بالسينما

بيتر هاجدو والسرد الصيني

عدد مجلة "أوربا" الخاص عن الأندلس .. نسمة هواء نقي في محيط فاسد

رمل على الطريق

مقالات ذات صلة

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟
عام

الشعر.. هل سيجد له جمهورا بعد مائة عام؟

علاء المفرجي هل سيجد الشعر جمهورا له بعد مائة عام من الان؟؟… الشاعر الأميركي وليامز بيلي كولنز يقول: " نعم سيجد، لأن الشعر هو التاريخ الوحيد الذي نملكه عن القلب البشري" فالشعر يعيش بين...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram