الرئيسية > أعمدة واراء > مرساة: معرضان

مرساة: معرضان

نشر في: 14 نوفمبر, 2023: 11:16 م

 حيدر المحسن

أُقيم هذا الشهر (تشرين الثاني) معرضان للفنّ التشكيلي، أحدهما للرسم على أرض قاعة (ذا كاليري) في الكرّادة خارج، والآخر لأعمال الخزف، في جمعيّة التشكيليّين العراقيّين في حيّ المنصور.

ثلاثة فنّانين عرضوا لوحاتهم في المعرض الأول: تحسين الزيدي ووضّاح مهدي ونبيل علي، الأول اعتمد على القيمة التزيينيّة الصارخة للعمل الفني أكثر، ولهذا السبب اختار الحجم الكبير للغاية للّوحة، ثلاثة أمتار وأربعة في متر ونصف، ويخال من ينظرها أنها تعود إلى إعلانات الدعاية التي تطالعنا في الشوارع والساحات، حيث تظهر الأشياء بهيئتها الطبيعيّة، مع لمعة حادّة في اللون، واختيار اللقطة المتحرّكة من أجل أن يكون التأثير مضاعفا. هنالك تفاحّة طائرة وسط لوحة تحسين الزيدي، وجمهور يهرول نحوها ولا يستطيع اللحاق بها، والإشارة هنا واضحة، وإن كانت دون قصد الفنّان، إلى المزاج العام في العصر الحديث، حيث يستقر مبدأ تسليع الحياة لدى الجمهور في قرار مكين لا يتزحزح تحت أيّ ظرف، وكأن مواضيع الأخلاق وسموّ النفس والنُبل في طلب سبيل العيش، وغير ذلك ممّا يخصّ جوهر الإنسان، كلّ هذا صار في الماضي البعيد، ولا يكاد يعرفه أحد. بمعنى آخر فإن الفنّ يقوم بالضدّ من رسالته. قل عنه ما تشاء، ويبقى ترويض النفس على طلب النقاء الروحي هو الجوهر من وراء إبداع الفنان. يا للكآبة التي تصيب العالم إن غاب هذا عن سلوى الفكر البشري، وصار الفنّ مجرّد سلعة خاوية جوفاء، تموت في اللحظة التي تولد فيها.

المعاني طافية على سطوح لوحات الزيدي، وتشغل كلّ مساحتها، فلا يبقى عندها مكان للرمز، والفنّان ليس سوى صانع معاني ومحاور أصداء ورؤى. الحياة حين تقال شعرا وموسيقى، وحين تُروى وتُرسم أو تُنحت تهبُ لنا حياة أكثر. كما أن المعنى في اللوحة الفنيّة مثله في النصّ الأدبي، كلما كان قصد الفنان ظاهرا على السطح، غارت القيمة الفنيّة بعيدا، وانحسرت.

يحاول وضّاح مهدي منذُ بداياته تشكيل هويّة فنيّة خاصّة به، بواسطة اللون الواحد في اللوحة، وهو الجوزي المخضرّ، وبواسطة الخطوط المنحنية، مع التشويه المتعمّد للهيئة، وقد ذهب الفنّان بعيدا في نجاحه، وصار يمثّل اسما مهمّا يشدّ بين الجيل المتأخّر والمتقدّم من الرسّامين العراقيّين.

مضى على هذا الكلام أكثر من عقد، لكن الزمن يمضي، وتتجدّد الحياة في كلّ يوم، كما أن السير مع روح العصر يتطلّب من الفنّان اكتشاف ألوان وثيمات وخطوط جديدة. الزمان لا يتبدّل، بينما لوحات المكان في تبدّل لا يعرف الوقوف، وكذلك المشاهد التي تتمظهر فيها الأشياء أمامنا في كلّ يوم، أو كلّ ساعة، لأن الحياة وإن كانت جامدة في حقيقتها، لكنّ العضو البصري فينا ينمو، ويتغيّر عندها محيطه وفضاؤه.

أنماط الوعي أربعة: التفكير والشعور والحسّ والحدس، والأخير هو الأهمّ عند إنجاز العمل الفنّي، ويتطلّب منا نوعا من السكون الفكري لا يتوفّر عندما يكون الفنان مشغولا في إعادة إنتاج ما سبق أن قدّم في الماضي. ولهذا يعمد الفنانون إلى أوقات من الراحة، كي تنمو عندهم خلايا جديدة، تقوم بمهمّة التجديد في مادّة الفنّ. عندما يسكن الفنان داخل ما ندعوه محيط النمط الفني الواحد، فإنه ينجح أحيانا في خلق حالة التوتّر لدى المتلقّي، أو يضيع منه هذا المقصد، ويعوز عندها عمله أهمّ عنصر في مركّب الإبداع.

كنتُ أودّ افتتاح المقال بالحديث عن المطعم و(الجِمْ) – أي قاعة التمارين الرياضيّة – المجاورَين للكاليري، ولا يفصل بين المطعم والقاعة غير زجاج مضاعف، حتى أن الطاعِمَ يكون فرجةً للفتيات والشُبّان يتشقلبون ويرفعون الأثقال في الجِم، ويجرون على سطح متحرّك يمضي بهم إلى لا أين. ويُشرفُ هؤلاء بدورهم على زبائن المطعم، الآكلين الشاربين المستريحين في كلّ ناحية. نحن إذن في دنيا جديدة، الطعام والشراب والأثاث ووجوه العاملين وأزياؤهم فيها جديدة، ويطلب الزائر إلى (الكاليري) مشاهدة فنٍّ جديد، تبعا لذلك، فهل تحقّق له الأمر في معرض الفنانين الثلاثة، تحسين الزيدي ووضّاح مهدي ونبيل علي؟ الجواب متروك لنقّاد الفنّ، لأني أحلّ ضيفا هنا، وليس للضيف أن يحكم ويتدبّر.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

قناطر: العالم يتوحش .. المخالبُ في لحمنا

العمود الثامن: قوات سحل الشعب

"الحشد الشعبي"... شرعنة التشكيل بوظائف جديدة

كلاكيت: "ندم" وعودة الفيلم الجماهيري

الحاكم بمنظور إمام سلطة الحق

العمود الثامن: قائمة المنتفعين

 علي حسين في بلاد الرافدين حزب من المنتفعين يضم عدداً من السياسيين والمسؤولين الكبار ممن إذا أصابت الناس مصيبة لاذوا بالصمت الذي هو في عرفهم أبغض الحلال. ومن المفارقات العجيبة في العراق -بلد...
علي حسين

باليت المدى: كرسي مكسور الساق

 ستار كاووش عندَ لقائي ببعض الناس أفاجئ ببعض التفاصيل الصغيرة التي تُشير الى نوع من الكسل واللامبالاة وعدم إيجاد الحلول حتى وأن كانت صغيرة. فرغم إنغماس أحدهم بتعديلِ صُوَرِهِ ببرامج الفوتو شوب كي...
ستار كاووش

(50 ) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياة بين فذيفتين

زهير الجزائري (1) يوم ١٣ نيسان ١٩٧٥ بدأت الحرب من مجزرةً (عين الرمانة). كنّا في طريقنا إلى الجنوب اللبناني حين انقطع بثّ الراديو بين إعلان عن مسحوق الغسيل المفضل لدى النساء العصريات و سيكارة...
زهير الجزائري

التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين: تحديات القرن الواحد والعشرين

محمد علي الحيدري التنافس بين الولايات المتحدة والصين أصبح في السنوات الأخيرة أحد أبرز القضايا التي تحدد ملامح السياسة العالمية، حيث يشتد في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية بشكل يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل...
محمد علي الحيدري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram