اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > فائِدة الفلسفة: الغزالي انتقدَ التكفِيرَ!

فائِدة الفلسفة: الغزالي انتقدَ التكفِيرَ!

نشر في: 15 نوفمبر, 2023: 11:28 م

رشيد الخيون

قد يراها القارئُ اللَّبيبُ غريبةً، بأنّ الإمام أبي حامد الغزالي (ت: 505 هـ) ينتقد التكفير، وهو الذي كفّر الفلاسفة في: "تهافت الفلاسفة"، "مقاصد الفلاسفة" و"المنقذ مِن الضلال"، حتى قيل لكثرة انشغاله بهم: "بلَعَ الفَلاسفَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يتقيأَهم، فما استَطَاعَ" (الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء)، وأتهمهم بـ"استدراج العوام" (المنقذ)،

مع أنَّ الفلاسفة المتهمين ليس لديهم ما يُغري العوام كي يستدرجوهم. بيد أن الغزالي الأشعريّ، ويُشهد له كان إماماً في التَّأليف والفقه، عانى الأشاعرة أنفسهم، لما تعرض لمحنة التسقيط، وبهذا صار لا يعطي الفقهاء الحق بالتكفير، وبالتالي التحكم بدماء النَّاس، لأنّ فتوى التّكفير خطيرة، باعتبارها "حكماً شرعياً، يرجع إلى إباحة المال، وسفك الدَّم، والحُكم بالخلود في النَّار" (الغزاليّ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزَّندقة).

اقتنع الغزالي بخطورة التكفير بعد أن طاله، فتراه يقول لأصحابه ممَن أغاظه الهجوم عليه: "رأيتك أيها الأخ المُشفق، والصَّديق المتعصب (التَّعصب له)، موغر الصدر، منقسم الفكر، لما قرع سَمعك مَن طعنِ طائفةٍ مِن الحَسَدة، على بعض كُتبنا، المصنفة في أسرار معاملات الدِّين، وزعم أن فيها ما يُخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، والمشايخ المتكلمين، وأنَّ العدول عن مذهب الأشعريّ، ولو في قيد شبرٍ كفر، ومباينته ولو في شيءٍ نزرٍ ضَلالٌ وخُسرٌ".

يغلب على الظن أن قول الغزالي بخطأ التكفير والمكفرين، واستيعاب التّجربة التي مر بها، له علاقة بما تشبعه مِن الفكر الفلسفي، فالفلسفة علم تبادل الآراء والأفكار، لذا عندما أُفتي بحرق كتبه، كان مهيئاً بها، مِن دون أن يدري، لنبذ التكفير، باعتباره خوضاً في الضّمائر والدّماء. حدد أصحابه الأشاعرة تهمته بالغلو في التصوف: "الشَّيْخ أَبُو حَامِدٍ ذُو الأَنباء الشنِيعة، والتَّصانِيفِ العَظِيمة، غلا فِي طرِيقَة التَّصوف، وتجرَّد لنَصر مذَهبهم، وصَار داعِيةً فِي ذلك، وأَلَّف فيه توَاليفه المشهُورَة، أُخِذ عليهِ فيهَا مواضِع، وساءت بهِ ظُنون أمةٍ، واللهُ أعلمُ بسرِّه، ونفذَ أمرُ السلطان عِندنا بالمَغرب، وفَتوى الفُقهاء بإِحراقهَا" (الذَّهبيّ، سير أعلام النُّبلاء).

حتى صار ينتقد المفتي بالتَّكفير قائلاً: "كلِّ فرقةٍ تُكَفر مخالفَها، وتنسبه إلى تكذيب الرَّسول عليه السَّلام، فالحنبليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنه مشبَّه، وكَذبَ الرسول في أنه ليس كمثله شيء، والأشعريّ يُكفر المعتزليّ زاعماً أنْه كَذب الرَّسول في جواز رؤية الله تعالى، وفي إثبات العِلم والقُدرة والصِّفات له، والمعتزليّ يُكفر الأشعريّ زاعماً أنَّ إثبات الصِّفات تكفير القُدماء... ولا يُنجيك مِن هذه الورطة إلا أنْ تعرف حدَّ التَّكذيب والتَّصديق، وحقيقتهما فيه" (الفيصل). لم ينفع الغزالي اعتبار الفلسفة بوابةَ الخراب الفكريّ، فظل يُلام على "إِدمَانِ النَّظَر فِي كِتَاب رسَائلِ إِخوَانِ الصَّفا، وَهو دَاءٌ عُضَال، وَجَرَبٌ مُرْدٍ، وَسُمٌّ قَتَّالٌ، وَلَوْلاَ أَنَّ أَبَا حَامِد مِنْ كِبَارِ الأَذكيَاء، وَخيَارِ المُخلِصينَ، لَتَلِفَ، فَالحِذَارَ الحِذَارَ مِنْ هَذِهِ الكُتُب" (الذَّهبيّ).

حصل هذا، لأنّ الخلاف داخل الجماعة الدّيِنيّة، سرعان ما يتحول إلى خلاف مع الله، مع أنّه خلاف بالأفكار، مثله مثل الخلاف داخل العقائد المدنيَّة. صحيح أنَّ الفقيه المغربي علي بن محمد الصدفيّ (ت: 509 هـ) أفتى، بعد حرق كتب أبي حامد مِن قِبل المرابطين، بتأديب الذي نفذ الفتوى، وتغريمه قيمتها "لأنّها مالُ مسلمٍ" (ابن الأبار، معجم أصحاب القاضي أبي عليّ الصّدفيّ)، لكن ما حصل أيقظ الغزاليّ.

أقول: لو يضع تجربته المُكفِرون أمام أعينهم، ويأخذون بفائدة درس الفلسفة، لأنها قد تحررهم مِن طامة التَّعصب. تخيل أن الغزالي، على فخامته داخل الإسلام عامة، يحل به ما حلَّ بالشَاعر إبراهيم بنُ سَيَابَةَ (ت: 198هـ) أحد المتهمين بالزَّندقة: "قَد كُنْتُ قبَلَ اليَومِ أَدعَى مُسلِمًا/ واليَومِ صَارَ الكُفرُ مِنْ أَسمَائِي" (ابن المُعتز، طَبقات الشّعراء). ختاماً: إذا كان هذا حال الغزاليّ فما حال الآخرين؟!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القبض على عشرات المتسولين والمخالفين لشروط الإقامة في بغداد

لهذا السبب.. بايدن غاضب من صديقه اوباما 

في أي مركز سيلعب مبابي في ريال مدريد؟ أنشيلوتي يجيب

وزارة التربية: غداً إعلان نتائج السادس الإعدادي

التعليم تعلن فتح استمارة نقل الطلبة الوافدين

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram