ستار كاووش
إعتاد الكثير من الفنانين علـى رسمِ التفاصيل التي يشاهدونها في الواقع، كالمناظر الطبيعية والبورتريهات وغيرها من الموضوعات والتفاصيل التي تمر أمامهم، فيلتقطونها ويضعونها على قماشات الرسم. لكن هناك بعض الفنانين ذهبوا بعيداً في تصوراتهم ومزجوا رؤاهم وفلسفتهم الخاصة مع الكثير من الخيال، فأنتجوا بذلك لوحات عبقرية فريدة.
ومن هؤلاء يبرز الفنان النمساوي ماكارت الذي طوَّرَ طريقة خاصة جداً في الرسم، سماها النقاد بطريقة ماكارت، الذي تميزت أعماله برمزية مذهلة وطابع فريد، حيث دفع بفن الرسم خطوات سابقة لعصره، حتى أثر تأثيراً كبيراً على ما يُسمى بالفن الإنفصالي في فيينا، وفرض مكانته الكبيرة التي صاحبتها شعبية وشهرة تجاوزت شهرة مونيه وديغا وحتى مانية المعاصرين له، وفتح الطريق للكثير من الرسامين الذين جاءوا بعده.
تعتبر لوحة ماكارت (الحواس الخمس) واحدة من الأمثلة المدهشة على ابداع ماكارت الرمزي، والموجودة في متحف بلفيدير بفيينا. تُرى كيف يمكننا أن نرى الحواس؟ كيف يمكن أن نتخيلها؟ ماهي الصورة التي في أذهاننا حين نفكر بواحدة من هذه الحواس الخمس التي لا يمكن العيش دونها؟ هنا يأتي الجواب من ماكارت الذي جعل هذه الحواس بهيئة خمس نساء رسمهن في خمس لوحات طولية كبيرة تُعرض سوية لتشكل في النهاية عمله الأسطوري المذهل.
هنا منحَ ماكارت معنى للإنوثة التي يريدها ويريدها كل رسام، نساء بأجساد تجمع بين الاكتناز والرشاقة، مثال لنساء نهاية القرن التاسع عشر، يخبرنك هنا كيف يمكن أن تكون الحواس مثيرة ومضيئة، بل مشتعلة وخالدة، حيث رحل الرسام وهو في الرابعة والاربعية من عمره وبقيت هذه الحواس تُدفيء جدران متحف بلفيدير، ووقفتْ خالدة تنظر لها الأجيال اللاحقة وتفكر بالأستاذ الذي صنع كل هذاالجمال. هكذا، يمضي كل شيء بإستثناء الجمال الحقيقي الذي إبتكره فنان مثل ماكارت. فهو مثل الينبوع الذي لا يكف عن منحنا كل مرة، جرعة من الحياة، وضوء نرى من خلاله الفن الكامن خلف قطع الكانفاس الفريدة.
هنا نرى الرمزية في أبهى صورها وأعمق تأثيرها. الرمزية التي حولت خمس نساء الى قصيدة للحواس، ومرتعاً للفتنة، وفضاء للتفكير بماهية الرسم.
هكذا رسم ماركات خمس نساء عاريات بمثابة الحواس الخمس، اللمس والسمع والنظر والشم والذوق، وحين تقف أمام اللوحات التي تشكل لوحة واحدة عليك ان تبدأ من جهة اليسار، لتمضي رويداً مع حواس ماكارت، التي تبدوا لأول وهلة كإنها خمس نساء جميلات وانتهى الأمر، لكن ماكارت في الحقيقة كان يبغي أيضاً موضوعاً حسياً فيه الكثير من الاثارة والغرابة والتجديد.
في اللوحة الأولى تستدير المرأة التي تمثل حاسة اللمس وترينا ظهرها وهي تخطو نحو عمق اللوحة وكإنها تُشير الى صعوبة لمسها، وهي تمسكُ بإحدى يديها زهوراً بيض، فيما ترفع بيدها الأخرى طفلاً مضيئاً كإنه كيوبيد الذي يستقر على كتفها.
وفي اللوحة الثانية تقف (حاسة السمع) ساهمة وكإنها تستمع الى شخص على يمينها، وهي تُغطي نصف جسدها الأسفل بقطة قماش. ولا يخلو المشهد من زهور صغيرة في مقدمة اللوحة، فيما تنسجم نباتات القصب المنبثقة الى الأعلى خلف المرأة، مع إستطالة اللوحة.
وتتوسط (حاسة النظر) اللوحات الخمس، حيث رسم فيها ماكارت حسناء تمسك مرآة وتنظر الى نفسها نظرة فيها الكثير من النرجسية، وكي تتأكد من جمال وجهها، قامت بسحبِ شعرها الى الخلف وربطته بدبوس كبير، ليتسنى لها التمعن بملامحها الجميلة، وقد ربطتْ خصرها بحزام من القماش، ورفعت إحدى ساقيها قليلاً لتزيد من جاذبية المشهد.
في اللوحة الرابعة أشاحتْ الفتاة التي تمثل (حاسة الشم) بوجهها نحو الخلف وهي تُقَرِّبُ بعض الزهور التي تَدَلَّتْ من شجرة في عمق اللوحة، ولَفِتْ جسدها بوشاح مرصع بالجواهر، تماماً مثل كتفها الذي إلتفت حوله القلائد. جسدها واضح أمام المشاهد، فيما وجهها يغيب مع عطر الزهور في خلفية اللوحة.
اللوحة الأخيرة التي تمثل حاسة (الذوق) رغم إن المرأة هنا ترينا ظهرها فقط، لكن ماكارت جعلها عارية تماماً، دون إضافات، بلا وشاح أو غطاء، تقف مسترخية وهي ترفع يديها للأعلى محاولة قطف إحدى الثمار، تُرى هل تُريد أن تتذوق الفاكهة فعلاً؟ أم إنها الخطيئة التي شغلت التاريخ، والثمرة التي أخرجت آدم وحواء من الجنة؟
خمس نساء بوضعيات مذهلة وتكوينات ساحرة، تنسى أمامها العري، لتقف منبهراً أمام هذا الجمال الساطع للرسم، وتعرف كيف ساهمت هذه اللوحة الخماسية في أن تعطي للنصف الثاني من القرن التاسع عشر أهميته ومكانته العظيمة في الرسم. الجمال هنا يقول كلمته ويمضي، كما مضى الرسام بعيداً ومضت معه الكثير من تفاصيل عصره، مع ذلك بقيت هذه اللوحة خالدة وستعيش الى الأبد.
جميع التعليقات 2
Anonymous
مقاله رائعه ومحفزه لكل المهتمين بالفن التشكيلى .. تحياتى
Anonymous
مقاله رائعه ومحفزه لكل المهتمين بالفن التشكيلى .. تحياتى