TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > هل يمكن للفن تغيير العالم؟

هل يمكن للفن تغيير العالم؟

نشر في: 20 نوفمبر, 2023: 09:15 م

إيفلين بويسيير *

ترجمة: عدوية الهلالي

هل الفن فعال حقًا في الممارسة أم أنه مجرد هواية بريئة وغير ضارة؟ يمكن ان نضرب مثلا في مفارقة النازية، فكيف يمكن لمثل هذه البربرية السياسية أن يمارسها أشخاص يوجد بينهم من يقرأ لجوته وكانط؟

لم يكن النازيون متوحشين أغبياء وغير متعلمين فلماذا إذن لم يمنعهم تذوقهم للأدب والفن من المشاركة في مثل هذه الانحرافات؟ لقد ازدهر الفن، والاهتمامات الفكرية، والعلوم الطبيعية، بالقرب من الزمان والمكان الذي حدثت فيه المجازر ومعسكرات الموت. وإذن، يمكن للصفات الواضحة للبراعة الأدبية والحس الجمالي أن تتعايش في نفس الفرد، مع المواقف البربرية السادية المتعمدة؟ كانوا يقرأون لجوته او ريلكه ويستمعون لباخ وموزارت ويمارسون التعذيب والقتل في غرفة الغاز! فهل يعتبر الفن عاجزا في مواجهة العنف وهل هنالك قصيدة خالدة أو لوحة فنية خففت من الإرهاب؟

من ناحية الشكل الاجتماعي، يمكن ان نفسر ذلك بأن الفن ليس له تأثير على الأشكال الأخرى للحياة الاجتماعية فالإنتاج الفني لا يغير السياسة أو الاقتصاد، والعكس ممكن.أما كممارسة إنسانية، فلا يغير الفن من شخصيات مؤلفيه أو المتفرجين فالفن لا يثقف، ولا يصقل شخصيتنا لدرجة إبعادنا عن أشكال البربرية. ويمكنك بالتالي الاستماع بشغف الى موتسارت والمشاركة في إبادة جماعية. لن يكون الفن إذن سوى هواية، من أجل المتعة وعلى نطاق محدود للغاية!

يرى البعض ان الفن خالٍ من كل جدية، ومعزولاً عن الحياة الواقعية. كما ان جماليته تحرم محتوى العمل من كل فاعلية، بينما يقول كانط: "أن الأشياء القبيحة يمكن أن تكون كائنات ذات تمثيلات جميلة.فالغضب والأمراض ودمار الحرب وما إلى ذلك. يمكن وصفها أدبيا، كأشياء ضارة، بشكل جيد للغاية ويمكن حتى تمثيلها باللوحات. ".وطالما ان الفن يحيّد الشيء، لذلك فإن كل شيء يمكن تمثيله في الفن.. ولا يمكن للفن أن يختبئ وراء براءته بل يجب أن نقبل طبيعته الخطرة ونعترف بها.

ويمارس بعض الفلاسفة قهرا فلسفيا للفن بتجريده من دوره الواقعي فيتساءلون مثلا ان كانت موسيقى الجاز بأي شكل من الأشكال سبب التحولات الأخلاقية في عصر الجاز أم أنه شعارهم فقط؟ وهل تسبب فريق البيتلز في الاضطرابات السياسية في الستينيات أم أنذر بها فقط؟.

هنالك بالفعل العديد من الأعمال التي لا تسبب حدوث أي شيء مهم وتقتصر على إحياء الذكرى، وإضفاء الروحانيات…. لذلك فهي تقع إلى حد ما ضمن نفس مستوى الاحتفال الديني، الذي تتمثل وظيفته بالتحديد في الاعتراف بالقيود الضيقة لقوتنا لفعل أي شيء..

ولكن، لماذا يعتبر الفن غالبًا خطيرًا، ولماذا تفرض الرقابة عليه؟ بالنسبة لدانتو، فإن الفلسفة هي التي تشكل هذه الصورة الخطيرة لأن الفن منافس خطير من خلال الإغواء الذي يمارسه في العقول. كما إن بنية الأعمال الفنية هي نفس البنية الخطابية، والأخيرة لها مهمة تغيير العقول أولاً، ثم تصرفات الرجال والنساء، من خلال استمالة مشاعرهم. وهذا هو السبب في أن أفلاطون كان معاديًا للفن وكذلك للبلاغة.وهذه هي الفكرة التي ستهيمن أيضا على أرسطو، فهناك تقارب بين الفن والبلاغة، وكلاهما فعل يعبر عن الإرادة ويعمل في مجال الحقيقة ويسعى إلى الإقناع نتيجة لذلك.

ويناضل الفن ضد مفهوم يجعله عزاءً لنكسات الحياة إذ يخصص شوبنهاور للفن هذه الفضيلة لمساعدتنا على الهروب من معاناة الحياة التي تتأرجح دائمًا من معاناة الرغبة إلى الملل الناتج عن الرضا. ويخرج الفن من دائرة الإرادة لأنه تأمل خالص، ويعرّف دانتو هذا المفهوم للفن على أنه: "متعة مخدرة تجعل الجمال كمخدر ويكمن الخطر الذي يجب تجنبه في التأمل الفني الجمالي".

إذن ما هي القوة العملية للفن في المجال السياسي: وهل يمكنه تغيير العالم؟ والسماح لنا بالخروج من الأيديولوجية؟ يحق لنا ان نتساءل هنا، كيف يمكن لشكل من أشكال الثقافة أن يفلت من الإيديولوجيا ويبقى موضع إعجاب؟ وهل هناك مجال ثوري عالمي في الفن؟ أم أن الفن مجرد تسلية ممتعة، وعزاء لمصاعب الحياة؟واذن فهل يمكن اعتبار الفن عنصرا أساسيا في تكوين الإنسان أم متعة لا داعي لها؟

من وجهة نظر تكوين الإنسان، يقارن أرسطو بين الطبيعة والتقنية: فالفعل الأخلاقي هو التطبيق العملي (تكوين الإنسان)، والفن هو التقنية (إنتاج كائن خارجي) وهوأيضًا تطبيق عملي ومن خلاله يمكن أن تتشكل إنسانية الإنسان وتكشف عن نفسها؟ كما ان أرسطو نفسه يضع نظرية التنفيس: إذ يمكن أن يكون للفن تأثيرات دائمة على الإنسان وليس فقط سبب المتعة المؤقتة. وهو أكثر من مجرد تقليد للطبيعة.. ألا يجب أن نرى في الفن أعظم إنجاز لحرية الإنسان؟

لكن الإنسان أيضًا كيان من الطبيعة، وكائن حساس والفن يبني جسراً من الطبيعة إلى الحرية.. إنه يوفق بين الإنسان الجسدي والإنسان الروحي والجسد والروح من خلال تطوير إحساس جمالي صحيح. فهل يسمح لنا الفن بالانتقال من الطبيعة إلى الحرية من خلال إدراك أنفسنا كبشر؟

· بروفسور في الفلسفة في جامعة باريس

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

السِّجن السّياسيّ: المطبِق وبيت البراغيث إلى قصر النّهاية وصيدنايا

العمود الثامن: اقفاص الأسد في يومها الأخير

العمود الثامن: أهلا بكم في الديمقراطية العراقية

العمود الثامن: تذكروا أنكم بشرٌ

قناطر: تحت طائرة بلنكين

العمود الثامن: تذكروا أنكم بشرٌ

 علي حسين كعادتي كل صباح اقرأ عمود الكاتب الصحفي سمير عطا الله في الشرق الأوسط، وهو يجمع بين السياسة والأدب والفلسفة ، وفي عموده قبل يومين تناول موضوعة القادة الذين يتوهون ان عقولهم...
علي حسين

كلاكيت: ترامب في معاركه مع السينمائيين

 علاء المفرجي مرة أخرى، يُجدّد الأميركيون انتخابهم دونالد ترامب. ومرّة أخرى تحظى الانتخابات الأميركية بمثل هذا الاهتمام العالمي، لأسباب عدّة، لعل في مقدّمتها انسحاب المنافس الرئيس لترامب، جو بايدن، والانسحاب كان لصالح نائبته...
علاء المفرجي

احمد الشرع..بمنظور علم نفس الشخصية

د. قاسم حسين صالح تنويههذه المقالة، او الدراسة، لا علاقة لها بالسياسة، انما هي سيكولوجية خالصة تدخل ضمن تخصص في علم النفس بعنوان (علم نفس الشخصية Psychology of Personality)..تهدف الى تقديم حالة واقعية في...
د.قاسم حسين صالح

" البعث" بدِمشق وبَغْداد.. غساسنة ومناذرة

رشيد الخيون بعد إزاحة "البعث" في 9 أبريل 2003 مِن سدة السُّلطة ببغداد؛ ظل جناحه السُّوريّ قائماً بدِمشق حتَّى 8 ديسمبر 2024، يحكمها على قلق، حتى انتهى بعد 61 عاماً. كان الأسد يعرف النتيجة،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram