لطفية الدليمي
قبل مايقاربُ العشر سنوات ترجمتُ – في سياق ترجمات منتخبة لحوارات مع روائيات وروائيين من شتى الجغرافيات العالمية – حواراً مع الروائي الاسترالي توماس كينيللي Thomas Keneally .
قد يكون هذا الاسم غريباً بعض الشيء للقرّاء ؛ لكنّ أهميته ستنكشف لو قلت أنه كتب رواية عنوانها قارِبُ شندلر Schindler›s Ark ، جعلها المخرج العالمي ستيفن سبيلبيرغ مادة لفيلمه الأشهر قائمة شندلر . جاء السؤال الاخير في الحوار مستفهماً عن الكتب التي كان يطالعها كينيللي وقت إجراء الحوار معه ؛ فأجاب : إلى الفنار To the Lighthouse لفيرجينيا وولف ، ثمّ عقّب هو ذاته عن جوابه ضاحكاً : ستندهشون إذ تتوقعون أنني قرأت كلّ الكلاسيكيات المعروفة . دعوني أخبركم : أنا لم أفعل هذا ، وأظنّ قلّما يوجد من قرأ كلّ هذه الكلاسيكيات أو حتى نصفها !!
أرى أنّ كينيللي كشف بجرأة ووضوح عن وضع المعتمد الادبي Literary Canon في عالمنا الراهن . المعتمد الادبي هو ببساطة مجموعة كلّ الاعمال الادبية التي إتّفقت مجموعة من المشتغلين بالادب (سمّهم نقّاداً أدبيين . لابأس في هذا) على رفعها لمصاف النخبة الادبية المصطفاة التي تتوجّب قراءتها من جانب كلّ مثقف أو راغب في حيازة بعض توصيفات الثقافة (أو الجنتلمانية الثقافية بحسب مفردات العصر الفكتوري وناقده الابرز ماثيو أرنولد) . لنتّفقْ لأغراض التبسيط التعريفي غير المخلّ بالمفهوم أنّ المعتمد الادبي هو قائمة كلّ الاعمال الادبية التي توصف بالكلاسيكيات The Classics .
المعتمد الادبي الغربي : ذراعٌ في الماكنة الكولونيالية الغربية
ساهمت فعاليات كثيرة في إشاعة معتمد أدبي محدّد هو المعتمد الغربي ، واعتُمِد هذا السياق منذ تشكيل مفهوم المعتمد الادبي أواخر القرن التاسع عشر . صار دانتي وغوته وشكسبير وملتون وكولردج وووردزورث وجين أوستن وفيرجينيا وولف وجورج إليوت وهنري جيمس وجيمس جويس وصامويل بيكيت ،،،، أكبر من شخوص أدبية خلّاقة . تحوّلوا أدواتٍ في إشاعة السطوة الكولونيالية الغربية عبر البوابة الثقافية الناعمة . هذا لايعني بالطبع أنّ هؤلاء كانوا شخوصاً راغبة في فرض سطوتها الكولونيالية ؛ لكنّ هذا ماأراده صُنّاع السياسة وراسمو جغرافيات النفوذ والهيمنة على المستويين : العسكري (الصلب) والثقافي (الناعم) .
لم يكن من سياسة ثقافية تدعم ترسيخ هذا المعتمد الغربي في الذاكرة والمخيال الفردي والجمعي أفضل من إعتماد سياسة تدريس مفردات من هذا المعتمد الادبي الغربي في المدارس . واضحٌ تماماً السببُ الكامن في كفاءة هذه السياسة : أنت في السياسة التعليمية تخاطب أعداداً هائلة (مليونية في العادة) من العقول الشابة المتطلّعة إلى المستقبل وغير المثقلة بأعباء التاريخ والآيديولوجيا ؛ وبالنتيجة تكون إمكانية التأثير فيهم أعظم من المقاربات الاخرى التي غالباً ماتكون أكثر كلفة ومشقة وأقلّ في حجم العوائد المتوقعة منها .
كلنا نتذكرُ أننا درسنا في المدارس الثانوية نماذج منتخبة من المعتمد الادبي الغربي ، وربما يكون إج. جي. ويلز في رواياته الشائعة هو المثال الكلاسيكي في هذا الشأن .
حارسو الميراث الأدبي الكلاسيكي
ساد نموذج المعتمد الادبي الغربي كلّ النصف الاول من القرن العشرين وبدايات النصف الثاني منه ، ثمّ إنقلب الحال مع نشوء الدراسات مابعد الكولونيالية ودراسات التابع : صرنا نسمع عن أدباء أفارقة وأمريكيين لاتينيين ومن جنوب شرق آسيا حققوا منجزات أدبية لامعة أهّلت بعضهم للحصول على جوائز نوبل الادبية . لكن برغم هذا ظلّت سطوة بعض (حرّاس البوابات GateKeepers) ممّن يرون المعتمد الادبي الغربي أقرب إلى نموذج الغابة المقدّسة لإليوت ، وفي مقدّمة هؤلاء هارولد بلوم Harold Bloom الذي كتبتُ عنه عندما تُوفّي قبل بضع سنوات موضوعاً في ثقافية (الشرق الاوسط) بعنوان ذي دلالة كاشفة : (وفاة حارس الميراث الشكسبيري) . لن ننسى بالتأكيد كتاب بلوم عن المعتمد الادبي الغربي الكلاسيكي ، وهو مترجم إلى العربية بعنوان (التقليد الادبي الغربي).
هل مِنْ سبيل لمعتمد أدبي عالمي ؟
الجواب بوضوح وبساطة : لاأظنّ ذلك ، وحتى لو وُجِد مثل هذا المعتمد الادبي العالمي فسيكون معتمداً كيفياً لاينال بركات المتسيّدين على حقل النقد الادبي . أسباب كثيرة تقف وراء ذلك ، منها :
- المعتمد الادبي والكبرياء القومية : نتحدّث كثيراً عن العولمة ؛ لكنّ هذا الحديث ليس أكثر من غطاء آيديولوجي لتحقيق مصالح براغماتية في الجانب الاقتصادي على وجه التخصيص ولصالح القوى المتغوّلة مالياً واقتصادياً وتقنياً . هل نتوقع مثلاً أن يجعل الياباني أو العربي أو الصيني أو الافريقي شكسبير بديلاً لشخوصه التاريخية المتوارثة ؟ ولماذا يفعل ذلك ؟ لاشيء يدفعه (أو يُرغّبه بالاصح) لهذه الفعلة .
- المعتمد الادبي وعلاقته بالنقد الادبي : المعتمد الادبي – كيفما كان أصله وطبيعته – هو صنيعة نقّاد أدبيين في نهاية الامر . نعرف أنّ سطوة النقّاد الادبيين كمرجعيات ثقافية قد تهاوت وتراجعت كثيراً في عصر (تهاوي المرجعيات) ، وكان من بعض نتائج ذلك أن صار النقد الادبي فرعاً صغيراً من محيط أعظم عنوانه (الدراسات الثقافية) . لم يعُد لدينا اليوم في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين من يماثلُ النموذج الفكتوري لماثيو أرنولد أواخر القرن التاسع عشر ، فضلاً عن أنّ الدراسات الثقافية تعنى بموضوعات متمايزة نوعياً عن الانشغالات التقليدية للنقد الادبي ، ولم يعُد في أولوياتها الملحّة تصميمُ معتمدات أدبية جديدة .
- المعتمد الادبي ومسألة الحجم : هذه موضوعة عملية ينبغي تداركها . لو تصوّرنا إمكانية الاتفاق (الكيفي) على معتمد أدبي عالمي أو قومي ؛ فهل سنظلّ نضيف له أعمالاً جديدة بعد أن تصبح بعض الاعمال الحديثة كلاسيكيات بفعل مقادير الزمن ؟ ألن يتضخّم هذا المعتمد إلى حدود سيعجز معها أكثر الافراد جدية وحرصاً ومثابرة على متابعة الاعمال المعتمدة فيه ؟ العناوين الكثيرة ستكبح قدرة الافراد على المتابعة والقراءة الجدّية .
كتابان عن راهن المعتمد الادبي
الكتاب الاول : عنوانه (دورُ المعتمد الادبي في تدريس الادب)
The Role of Literary Canon in the Teaching of Literature
لمؤلفه روبرت جَيْ. أستون Robert J. Aston . الكتاب منشور حديثاً (2022) عن دار نشر راوتليدج ، وهو غير مترجم إلى العربية . يُعرَفُ عن مؤلف الكتاب أنّه مُنظّر ثقافي ، ومؤلف ، وأستاذ جامعي يركّز في دراساته وأبحاثه على نظرية المعتمد الادبي ، والمعرفة الادبية ، وتدريس الادب وفلسفته .
يفتتح المؤلف كتابه بمقدمة ممتازة عن (موضعة المعتمد الادبي) ، ثم يتناول في فصول خمسة لاحقة موضوعات : تعليق الاضافات إلى المعتمد الادبي ، وحارسو البوابات وتدريس الادب ، والمعتمد الادبي وعلاقات السلطة الادبية المهيمنة في مقابل المقاومة المعاكسة ، عوامل الاستقرارية والتغيير في المعتمد الادبي ، موضوعة لاإكتمال المعتمد الادبي وتأثير ذلك في عملية تدريس الادب .
الكتاب صغير الحجم لايكاد يتجاوز المائة وخمسين صفحة مع بيبلوغرافيا جيدة التوثيق لمباحث الكتاب .
الكتاب الثاني : عنوانه (هذا هو المعتمد) مع عنوان ثانوي حافل بالاثارة (أبطِلْ إستعمار رفّ مكتبتك بواسطة خمسين كتاباً)
This is the Canon : Decolonize Your Bookshelf in 50 Books
لثلاثة مؤلفين : أحدهم من غرينادا ، والآخر أسترالي المولد من أصول افريقية ، والثالث من سيراليون . الكتاب منشور حديثاً (2023) وغير مترجم إلى العربية .
هذا الكتاب هو هجوم راديكالي على مفهوم المعتمد الغربي . يذكّرنا عنوان الكتاب بكتاب آخر كتبه الروائي والاستاذ الجامعي الافريقي نغوغي واثيونغو بعنوان (إبطالُ استعمار العقل) . مايسعى له المؤلفون الثلاثة هو شطبُ المعتمد الغربي وإبدالُهُ بمعتمدٍ آخر مستحدث يتأسس على أعمال أدبية ليس بينها أحد الكلاسيكيات الغربية القديمة أو الجديدة . الكتاب أقرب إلى أنثولوجيا لخمسين كاتباً وكاتبة ، منهم : ياسوناري كاواباتا ، إليخو كاربنتير ، تشينوا أتشيبي ، آسيا جبّار ، جين ريز ، نغوغي واثيونغو ، توني موريسون ، أرونداتي روي ، خالد حسيني ، تشيماماندا نغوزي أديتشي ، أرافيند أديغا ، زادي سمث .
يدّعي مؤلفو الكتاب أنهم بعملهم هذا لايسعون سوى لتأكيد التنوّع الادبي وعدم قصره على لون واحد أو جغرافية واحدة .
المعتمد الادبي في خريطة الادب المعاصر
فقد مفهوم (المعتمد الادبي) الكثير من سطوته التوجيهية ، وماعاد يمثلُ مرجعية ثقافية . صارت مسؤولية الفرد أن ينتخب مايشاء من قراءات أدبية تبعاً لرغبته وشغفه ورؤيته الخاصة . قد يعيش المرء حياة كاملة اليوم ثم يغادر هذه الحياة من غير أن يقرأ شكسبير أو دانتي أو جيمس جويس أو أعمال أساطين أدب الحداثة ومابعد الحداثة . لابأس في هذا . يجب أن نقبل هذا الامر ولانعدّه مثلبة ثقافية .
لن نستطيع بعد اليوم متابعة كلّ كلاسيكيات الادب الغربي وغير الغربي . حسبُنا أن نقرأ مايتناغم مع ذائقتنا الخاصة . تبدو هذه المقاربة هي المقاربة الفضلى في عصر إشكالي متخم بالمعضلات الباعثة على الاكتئاب .
لو أنّ الادب ظلّ يخدم الكائن البشري كأحد العناصر المنتجة للغاية والمعنى في الحياة البشرية فذلك يكفيه من مسعى . هذا أفضل بكثير من تسطير عناوين في معتمدات أدبية قد لاتجد من يُلْقي نظرة يتيمة عليها في نهاية المطاف .