اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مرساة: خزفُ فريد وحيد

مرساة: خزفُ فريد وحيد

نشر في: 21 نوفمبر, 2023: 10:54 م

 حيدر المحسن

1

تستأني في خطوِكَ، ثم تقفُ. وتطولُ وقفتُكَ، وبشفتين وعينين نصف مغلقتين، كما لو كنتَ مصابا بقِصر النظر، تطالع الرقّة المحتدمة في عملَي الفنّان (فريد وحيد) المعروضَين في مهرجان الخزف على أرض (الجمعيّة)، الاسم المختصر والشائع بيننا لجمعيّة التشكيليّين العراقيّين في حيّ المنصور، ضمن نتاجات المعرض الذي أقيم هذا الشهر (تشرين الثاني)، وجاء ذكره في عمودي يوم الأربعاء السابق.

العمل الفنّي المكتمل، والذي ينهض على بنية رصينة، يثير فيك رغبةً وفضولا إلى أن تعرف ماهيّته، لأن ثمة ضلالا ملوّنة تغشاه، وعليك أن تجتازها في سبيل الوصول إلى غايتك. ويشترطُ عليكَ الفنّانُ أن يكون لديك خبرة طويلةً في كشف الغبش، وإزاحة الضباب، وتكسير طبقة رصاص كثيفة لا ينفذ منها ضوء، بشرط أن لا يأتي هذا الفعل بشكل عبء غير مرغوب فيه، أو مرهقا. وفي الأخير، يمنحك صانعُ العمل عطيّة ليس لها شبيه؛ الشعور بالانسجام مع النفس ومع الكون، وهي الغاية القصوى من مطالعة وتأمّل الأعمال الفنّية.

هنالك قانون في الإبداع سنّه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، وجاءت ترجمته إلى العربيّة بهذه الصورة: «في الجديد تبحث عمّا هو في غير الجديد، وفي غير الجديد تبحث عن الجديد». الجملة رماديّة، وماضية في غموضها، وإن شئنا تفسيرها، فهي تعني أن على الفنّان السير على حبل مشدود بين ناطحتي سحاب. احتمال النجاة ضعيف، وصعبٌ للغاية، ويشبه المعجزة، وكذلك هو الإعجاز في صنعة الفنّ.

ما يريد أن يبلغنا به كالفينو، في الحقيقة، هو جهاد الفنّان للخلاص من بلوى الانتماء أو العيش أو التفكير بطريقة مشابهة لما كان يقوم به الفنّانون في الماضي، مع الاعتماد في الوقت نفسه، على ما قدّمه لنا الأسلاف عبر التاريخ، والتاريخ هو الأمس، وقبل سنة، وقبل قرن أو قرون، وأكثر.

الرغبة في التجديد، والعزيمة التي لا تكلّ، تمكّنان الفنّان من أسر القداسة وإيداعها جوهر عمله. هل استطاع الخزّاف (فريد وحيد) عمل القطيعة مع الماضي، والبدء بخطوة جديدة؟ يتعيّن علينا، في سبيل الجواب على هذا السؤال، العودة إلى القصّة منذ البداية...

لديك نار ولديكَ طين، والخزف الناتج يكون صقيلا وقويا وهشّا، مثل طفل وليد، حتى أن الألوان التي تغطّيه تبدو كانها قطعة منه، جاء بها الرضيع من رحم الام. نقرأ مثل هذا الكلام في قصص بدء الخليقة، وكيف أن الإنسان في أصله كان صلصالا نفخ الله فيه روحا، فقام بشرا في أحسن تقويم. ذُكِرت هذه الحقيقة في القرآن الكريم في ستّ سُوَر: المؤمنون: «ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين»، والصّافّات: “إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» ومعنى لازب هو المتماسك الأجزاء والمتجانس، ويكون في قاع النهر أي ما ندعوه بالطين الحرّي، الذي يستعمله الخزّافون في عملهم. كذلك وُرِدَ ذكر الطين في سورة الرحمن، والإشارة فيها صريحة: “خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ»، وفي سورة الحجر: «لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون»، الصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل، أي يُحدث صوتا إذا حُرّك أو نُقر عليه، كما هو عليه حال الفخار، وجاء في التفسير أن الحمأ المسنون هو الطين الأسود اليابس خبيث الرائحة، ومعنى مسنون: مصوّر بهيئة إنسان أجوف، والآية الكريمة ربما كانت الجذر الأول في قصيدة الشاعر الأمريكي ت. س. إليوت “الرجال الجوف”، فالمعروف عن الشاعر ثقافته الواسعة في مختلف اللغات، وقدرته على الاستعارة من آثار الشعوب في أنحاء الأرض، وتعلّقه في الأخصّ بالكتب المقدّسة، وهذا ليس موضوع حديثنا بالطبع، ولكنه استنتاج جاء عرضا في أثناء الكلام. ونقرأ ذِكر الطين كذلك في سورة السجدة: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ»، وأخيرا في سورة الروم: “مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ”.

(يتبع...)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram