حيدر المحسن
1
تستأني في خطوِكَ، ثم تقفُ. وتطولُ وقفتُكَ، وبشفتين وعينين نصف مغلقتين، كما لو كنتَ مصابا بقِصر النظر، تطالع الرقّة المحتدمة في عملَي الفنّان (فريد وحيد) المعروضَين في مهرجان الخزف على أرض (الجمعيّة)، الاسم المختصر والشائع بيننا لجمعيّة التشكيليّين العراقيّين في حيّ المنصور، ضمن نتاجات المعرض الذي أقيم هذا الشهر (تشرين الثاني)، وجاء ذكره في عمودي يوم الأربعاء السابق.
العمل الفنّي المكتمل، والذي ينهض على بنية رصينة، يثير فيك رغبةً وفضولا إلى أن تعرف ماهيّته، لأن ثمة ضلالا ملوّنة تغشاه، وعليك أن تجتازها في سبيل الوصول إلى غايتك. ويشترطُ عليكَ الفنّانُ أن يكون لديك خبرة طويلةً في كشف الغبش، وإزاحة الضباب، وتكسير طبقة رصاص كثيفة لا ينفذ منها ضوء، بشرط أن لا يأتي هذا الفعل بشكل عبء غير مرغوب فيه، أو مرهقا. وفي الأخير، يمنحك صانعُ العمل عطيّة ليس لها شبيه؛ الشعور بالانسجام مع النفس ومع الكون، وهي الغاية القصوى من مطالعة وتأمّل الأعمال الفنّية.
هنالك قانون في الإبداع سنّه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو، وجاءت ترجمته إلى العربيّة بهذه الصورة: «في الجديد تبحث عمّا هو في غير الجديد، وفي غير الجديد تبحث عن الجديد». الجملة رماديّة، وماضية في غموضها، وإن شئنا تفسيرها، فهي تعني أن على الفنّان السير على حبل مشدود بين ناطحتي سحاب. احتمال النجاة ضعيف، وصعبٌ للغاية، ويشبه المعجزة، وكذلك هو الإعجاز في صنعة الفنّ.
ما يريد أن يبلغنا به كالفينو، في الحقيقة، هو جهاد الفنّان للخلاص من بلوى الانتماء أو العيش أو التفكير بطريقة مشابهة لما كان يقوم به الفنّانون في الماضي، مع الاعتماد في الوقت نفسه، على ما قدّمه لنا الأسلاف عبر التاريخ، والتاريخ هو الأمس، وقبل سنة، وقبل قرن أو قرون، وأكثر.
الرغبة في التجديد، والعزيمة التي لا تكلّ، تمكّنان الفنّان من أسر القداسة وإيداعها جوهر عمله. هل استطاع الخزّاف (فريد وحيد) عمل القطيعة مع الماضي، والبدء بخطوة جديدة؟ يتعيّن علينا، في سبيل الجواب على هذا السؤال، العودة إلى القصّة منذ البداية...
لديك نار ولديكَ طين، والخزف الناتج يكون صقيلا وقويا وهشّا، مثل طفل وليد، حتى أن الألوان التي تغطّيه تبدو كانها قطعة منه، جاء بها الرضيع من رحم الام. نقرأ مثل هذا الكلام في قصص بدء الخليقة، وكيف أن الإنسان في أصله كان صلصالا نفخ الله فيه روحا، فقام بشرا في أحسن تقويم. ذُكِرت هذه الحقيقة في القرآن الكريم في ستّ سُوَر: المؤمنون: «ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين»، والصّافّات: “إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» ومعنى لازب هو المتماسك الأجزاء والمتجانس، ويكون في قاع النهر أي ما ندعوه بالطين الحرّي، الذي يستعمله الخزّافون في عملهم. كذلك وُرِدَ ذكر الطين في سورة الرحمن، والإشارة فيها صريحة: “خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ»، وفي سورة الحجر: «لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون»، الصلصال: هو الطين اليابس الذي يصلصل، أي يُحدث صوتا إذا حُرّك أو نُقر عليه، كما هو عليه حال الفخار، وجاء في التفسير أن الحمأ المسنون هو الطين الأسود اليابس خبيث الرائحة، ومعنى مسنون: مصوّر بهيئة إنسان أجوف، والآية الكريمة ربما كانت الجذر الأول في قصيدة الشاعر الأمريكي ت. س. إليوت “الرجال الجوف”، فالمعروف عن الشاعر ثقافته الواسعة في مختلف اللغات، وقدرته على الاستعارة من آثار الشعوب في أنحاء الأرض، وتعلّقه في الأخصّ بالكتب المقدّسة، وهذا ليس موضوع حديثنا بالطبع، ولكنه استنتاج جاء عرضا في أثناء الكلام. ونقرأ ذِكر الطين كذلك في سورة السجدة: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ»، وأخيرا في سورة الروم: “مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ”.
(يتبع...)